: آخر تحديث

أميركا.. الحارس الشخصي الدولي

14
12
9

في عالمٍ باتت فيه المبادئ تُباع وتُشترى، والمواقف تُقاس بحجم الحسابات البنكية، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية تلك القوة العظمى التي تحمل مشعل الحرية وتنشر قيم الديمقراطية. بل تحوّلت، تدريجيًا، إلى ما يشبه "الحارس الشخصي الدولي"، أو بتعبير أكثر حداثة: "بودي غارد" لمن يدفع أكثر.  

لنبدأ من أوكرانيا. فما إن بدأت الحرب واشتدت وطأتها، حتى تحرّكت واشنطن لنجدتها، لا حبًا بالشعب الأوكراني، بل بدافع الجيوب الغنية تحت الأرض. المعادلة كانت واضحة: "نحميك، لكن نحتاج معادنك". الحماية مقابل الموارد، والشعارات الجميلة تُقدّم كغلاف لخدمات أمنية باهظة.  

ثم تأتي أوروبا، التي رغم ثرائها وقوتها الاقتصادية، وجدت نفسها تلهث خلف العباءة الأميركية. صفقات تسليح بمليارات، ونشر لقواعد عسكرية، وقيود استراتيجية، كل ذلك باسم الدفاع المشترك، بينما الحقيقة تقول: أوروبا تدفع، وأميركا تحرس.. طالما استمرت التحويلات.  

أما إسرائيل، فهذه قصة مختلفة تمامًا. طفل أميركا المدلل، لا يطلب شيئًا إلا ويُلبّى. دعم سنوي بأكثر من 3.8 مليار دولار، تسليح مفتوح، فيتو جاهز في مجلس الأمن، وتأييد مطلق مهما بلغ حجم الانتهاكات. حتى حين تمنع إسرائيل دخول القمح إلى غزة، وتستخدم التجويع كسلاح حرب، لا تهتز شعرة في رأس السياسة الأميركية. لأن الحماية هنا ليست مقابل الدفع فقط، بل أيضًا مقابل المصالح العميقة الممتدة.  

إقرأ أيضاً: حين يصبح القمح سلاحاً والتجويع سياسة

هذا السلوك يجعلنا نتساءل بجدية، هل ما زالت أميركا قوة عظمى، أم تحوّلت إلى شركة أمن عالمية تُقدّم خدمات الحماية بأسعار تنافسية؟ وهل حان الوقت لظهور تطبيق جديد اسمه "USGuard"؟  

"اشترك الآن واحصل على باقة الحماية من التهديدات الروسية والصينية والإيرانية، عروض خاصة للدول الغنية والمعادن الثمينة"؛ لقد أصبحت أميركا تتعامل مع القضايا الدولية بمنطق "من يدفع أولًا"، لا بمنطق المبادئ أو العدالة. حماية مقابل مصالح. تدخل مقابل موارد. دعم مقابل تطبيع. حتى السلام صار له تسعيرة.  

والمفارقة أن هذا "البودي غارد العالمي" يتحدث كثيرًا عن القيم والمبادئ، لكنه لا يتحرك إلا إذا دُفع الثمن مقدمًا. أما الدول التي لا تملك الثروات ولا تستطيع الدفع، فلتنتظر دورها في طابور الاهتمام الدولي، خلف جدول المصالح الأميركية.  

إقرأ أيضاً: ظلال الحرب.. فلسطين مرآة لعالم مضطرب

في النهاية، هذه هي الحقيقة، لم تعد القوة تُقاس بالحق، بل بحجم الفاتورة. وأميركا، التي لطالما تغنّت بأنها زعيمة العالم الحر، باتت اليوم حارسًا مأجورًا، يقف حيث المال، ويصمت حيث لا توجد فائدة. إذا كانت القيم تُقايَض بالمعادن، والسلام يُشترى بالنفط أو الذهب، وفي هذا الزمن الذي اختلطت فيه القيم بالمصالح، لم يعد مستغربًا أن يتحوّل "قائد العالم الحر" إلى مجرد موظف أمن بربطة عنق، لا يهمه من يسقط ومن يُقتل، بقدر ما يهمه من يملأ الخزانة. فلا عجب أن يزداد العالم اضطرابًا، حين تكون العدالة رهينة الفاتورة، والكرامة بندًا في قائمة الأسعار. فهل آن الأوان لنعيد تعريف مفاهيم "التحالف" و"الصداقة" و"الدعم"، ونفهم أن اليد التي تمتد للحماية قد تكون ذاتها التي تفرغ الجيوب، وتغضّ الطرف عن الظلم… طالما أن الصفقة ما زالت سارية المفعول؟ والبقاء للأقدر على الدفع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.