طال بحثي حتى ظفرت في يناير الأخير بالنسخة المترجمة من كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» للمستشرق البريطاني جيمس «جمال الدين» هيوارث دن. وما شوقني إلى اقتناء النسخة المترجمة (مع اطلاعي على النسخة الإنجليزية) هي دراسة—سدت ثغرات وأنارت زوايا—أعدها الباحث السعودي علي العميم عن ج. هـ. دن ومجموعة من الأحداث المرتبطة بالفترة التي يؤرخ لها في مصر–من الثلاثينات حتى الخمسينات الميلادية. وهي الفترة التي شهدت نشوء فنمو جماعة الإخوان المسلمين، وعاصرها ووثقها دن عن قرب. وقد ضمّن العميم دراسته في ترجمة الكتاب الصادرة عن دار جداول.
البحث في تاريخ دن وعلاقته بالإخوان يثير مئينا من الأسئلة، وقد وصل العميم لأجوبة كثير منها في دراسته. وما اكتشف العميم في دراسته كنوزا إلا وأثار معها من التساؤلات كثير، وأشعل من الفضول ما هو أكثر.
أشار العميم في دراسته إلى أرشيف دن حيث قال: «زيارته [دن] الأولى لمصر كانت في سنة ١٩١٩م وهذه المعلومة مستقاة من أرشيفه الشخصي في مصر والذي تم شراؤه من قبل معهد هوفر في جامعة ستانفورد بأمريكا سنة ١٩٤٩م، حينما كان هناك». وذكر في الهامش: «زودني بمعلومات من هذا الأرشيف إليسك إدورد».
أرشيف دن الذي يشير إليه العميم لم تشتره معهد هوفر في عام ١٩٤٩م أثناء إقامة دن في أمريكا، وإنما اشترته مكتبة وأرشيفات معهد هوفر في جامعة ستانفورد في عام ١٩٧٠م، أي حينما كان يقيم دن في المملكة المتحدة، وقبيل وفاته ببضع سنين. أما تفصيل أن زيارة دن الأولى لمصر كانت عام ١٩١٩م هي استنتاج خاطئ من العميم كما سأناقش في مقال لاحق.
أرشيف دن كما ذكرت وكما يشير االمؤرخ البيبليوغرافي للشرق الأوسط في مكتبة هوفر إدوارد يايكو اشترته مكتبة هوفر في ١٩٧٠م. وكان - كما يذكر - في ست صناديق حين اطلع عليه لأول مرة في يومي الثالث والخامس من مايو لعام ١٩٨٣م حيث كان أمينا لقسم الشرق الأوسط. وقد أعيد توزيع وثائق ومحتويات الأرشيف، حيث تتوزع اليوم في ٢٦ صندوق، ٢١ منها هي صناديق الأرشفة ذات الأبعاد: ١٥ وربع إنش x ١٠ وربع إنش x ٥ إنش (صورة بالأسفل)، وخمس صناديق هي من صناديق الكروت ذات الأبعاد: ١٥ وثلاث أثمان إنش، ٣ وثمن إنش، و٤ وربع إنش.
أحد الصناديق الواحد وعشرين بالأبعاد التي أشرت لها آنفا
يجدر الإشارة إلى أن جزء آخر من أرشيف هيوارث دن تملكه جامعة ميشيغان آن آربور، وهو أرشيف مكتبة دن، والذي اشترته جامعة ميشيغان عام ١٩٥٠م.
تبعد مكتبة هوفر في ستانفورد ساعة بالسيارة عن مدينة بيركلي حيث هي جامعتي «جامعة كاليفورنيا بيركلي»، وبمعرفتي ذلك تهاوت عندي أسوار التردد، فحجزت موعدًا للاطلاع على الأرشيف، وكانت الزيارة.
وقد اطلعت خلال زيارتي يوم الخميس العشرين من شهر فبراير لعام ٢٠٢٥م على الأرشيف، وسأورد مقتطفات منه في هذا المقال، وسأناقش أطروحة العميم عن جيمس دن في المقالات التالية، على أن تحوي مقالات لاحقة مقتطفات شعرية جمعتها من كشكول دن ومختاراته.
نظرة عامة على الأرشيف:
معظم ما احتواه الأرشيف كانت موادا مكتوبة باللغة الإنجليزية، تلتها العربية، ثم الفرنسية، مع وجود مواد بالألمانية والتركية والفارسية. أدناه هي تفاصيل محتويات كل صندوق من الأرشيف حسب إفادة مكتبة هوفر:
صندوق ١: خمس مجلدات من المخطوطات والملاحظات عن كتب ومقالات جميعها تناقش مصر والشرق الأوسط. ودفاتر وملاحظات مكتوبة بخط يد دن حول مواضيع مختلفة.
صندوق ٢: ملاحظات مكتوبة بخط اليد ومطبوعة حول الكتب والمقالات عن مصر والشرق الأوسط، وبعض الكتب (منها: الحضارة الإسلامية خلال العصر العباسي، سيرة رفاعة الطهطاوي، ملاحظات حول مصر في القرن التاسع عشر، ملاحظات من إلياس أيوب، ملاحظات حول تاريخ الجبرتي، ملاحظات حول مصر في القرن التاسع عشر، مقتطفات وملاحظات من الأعمال الأوروبية في المتحف البريطاني).
صندوق ٣: يتضمن ملاحظات مكتوبة بخط اليد من دن، وكتاب: صناعة القلائد الإسلامية مع إشارة خاصة إلى بلاد فارس (والراجح عندي أن كاتب هذا الكتاب هو دن نفسه) ورسالتي دكتوراه من معهد الدراسات الاستشراقية. الأولى: «التشيع وتأثيره على الأدب العربي»، س. أ. أ. خلصي، معهد سواس SOAS عام ١٩٤٧م. والثانية: «مفهوم الدولة في النظرية السياسية الإسلامية»، م. د. الريس، عام ١٩٤٥م. بالإضافة لذلك، وجدت مقتطفات من كتاب أ.أ. بيفان «صعود الساراسين وتأسيس الإمبراطورية الغربية»، التاريخ الوسيط لكامبريدج، عام ١٩١٣م.
صندوق ٤: كتاب «التأثيرات الغربية في الأدب العربي في مصر وسوريا بين عامي ١٨٢٠م – ١٨٧٩م» والذي كتبه دن كما أشار في نشرات نشرها في القاهرة في عام ١٩٥٢م واطلعت على بعض منها. ورسالة ماجستير: جورج داوود شهلا، «التصور العربي للمعلم المثالي كما يظهر في الأدب التربوي العربي». ورسالة دكتوراة: إسحاق موسى الحسيني، «حياة وأعمال ابن قتيبة»، من جامعة لندن عام ١٩٣٤م. ومجموعة من الملاحظات له حول اللغة العربية.
صندوق ٥: يحتوي على صور لعينات مختلفة من الخط العربي، وأجزاء من مخطوطات عربية، ووثيقة مكتوبة بخط اليد باللغة العربية. ويحوي أيضا نسخ من صفحات كتاب الشعرية العربية في القرن التاسع لكراتشكوفسكي، ونسخ من مقالة حول الترجمة العربية لكتاب فن الشعر لأرسطو لمارتن بلسنر (نشرت في المجلة الشرقية للأدب عام ١٩٨١م). ونسخ من صفحات من كتاب قراءة القرآن في القاهرة لبيرجشتراسر، وكتب أخرى وملاحظات وتعليقات لدن.
صندوق ٦: يحوي الصندوق السادس على كتاب إلياس أبوب« المسألة المصرية»، واقتراح لإنشاء برنامج دراسات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة جورج واشنطن كتبه جيمس دن، ومقالة لدن بعنوان «التعليم الحديث في المملكة العربية السعودية»، وكتاب كراتشكوفسكي «الأدب العربي في القرن العشرين»، و«تقرير أعضاء البعثة الحكومية المصرية في أمريكا» نشر في ٥ مايو ١٩٤٨م لوزارة التربية والتعليم الإدارة العامة للبعثات. وملاحظات لدن حول هيئة الإذاعة البريطانية وتقارير كتبها حول الحاجة لنشر أخبار بي بي سي بالعربية وإلى العالم العربي. وأخرى.
صندوق ٧: يحوي الصندوق السابع على أوراق منوعة حول التعليم والدراسات الشرقية في إنجلترا وروسيا ومصر. وكتب منها كتاب ر.ن. برودلي: «مغامرة في اللغة» وكتاب «الطباعة والترجمة في عهد محمد علي: تأسيس العربية الحديثة»، منشور الجمعية الملكية الآسيوية في يونيو ١٩٤٠م. وصور لأجزاء مختلفة من من كتاب الحماسة، وأوراق كتبها دن بعنوان ملاحظات حول النصب في اللغة العربية بعد إنّ وأخواتها.
صندوق ٨–١٣: مجموعة من الكتابات العلمية والملاحظات البحثية والنصوص التي جمعها أو كتبها دن في اللغويات والتاريخ بشكل أساسي، والإسلاميات بشكل ثانوي.
صندوق ١٤–١٦: قصاصات صحافية من صحف عربية.
صندوق ١٧: قصاصات صحفية من صحف عربية، وأعمال أدبية ودراسات جغرافية ورحلات منوعة.
صندوق ١٨: كثير من الكتابات والقصاصات عن الشعر العربي، بالإضافة لشروحات في النحو وقواعد اللغة العربية
صندوق ١٩: مواد عن الدراسات الإسلامية
صندوق ٢٠: الجمعيات في مصر، ونسخة من كتاب الطبيخ لمحمد بن حسن البغدادي، ومواد متنوعة.
صندوق ٢١–٢٤: تحوي على ملفات بطاقات ببليوغرافية، وهي سجلات ببليوغرافية قام جيمس هايورث-دَن بتصنيفها وفقًا لنظامه الخاص.
صندوق ٢٥: نسختين من كتاب التعليم والحياة الفكرية في مصر من ١٧٩٨م إلى ١٨٤٨م.
صندوق ٢٦: كتاب مقدمة لدراسة التعليم والأدب في مصر في القرن الثامن عشر ١٧٠٠م-١٧٩٨م. وكتاب حياة وأوضاع المرأة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي البدائي كما وردت في الجزء الثامن من «طبقات الكبرى» لابن سعد والجزء السادس من «المسند» لابن حنبل.
انتهى هنا.
كتابات دن عن كتاب «مصباح الساري ونزهة القاري»
وهنا اقتباساته وتعليقاته من كتاب «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة: ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة» لمبارك علي باشا:
كتابات دن عن كتاب «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة: ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة»
احتوى الأرشيف أيضا مجموعة من أظرف الرسائل التي أرسلت إلى عنوان دن في واشنطن ونسخ مصورة لعدة كتب ومقالات صحفية إنجليزية وفرنسية، ومجموعة من الرسائل التي أرسلت لدن في نهاية الثلاثينيات الميلادية، ودراسة كتبها بعنوان: «بعض الملاحظات حول تنظيم الدراسات الاستشراقية في روسيا» ودراسات وأوراق أخرى سآتي في مناقشتها في المقالة التالية.
تكثر قراءات وتعليقات دن على الكتب المصرية التي أرخت في مصر في القرنين الثامن والتاسع عشر. نجد مثلا كتاب وصف مصر (١٧٣٥م) للدبلوماسي الفرنسي بندكت دو ماييه، وكتاب مذكرات البارون دي توت (١٧٨٤م) للضابط الفرنسي البارون دي توت، وكتاب نظرة سريعة (١٨٣٨م) للجغرافي الفرنسي جان باتيست جوما، وكتاب التاريخ الرسمي للحملة الفرنسية في مصر (١٨٣٩)، ومجموعة كتب متنوعة اخرى لمؤلفين ألمان ككتاب رحلة إلى مصر والبلاد العربية (١٧٦١م-١٧٦٣م) لكارستن نيبور وفصل عن أكاديميات العرب (١٨٣٧م) لهاينريس فرديناند فوستنفيلد، ولكتب بريطانيين ككتاب مذكرات حملة مع الجيش العثماني (١٨٠٠م) لجيمس مورييه، ومؤلفات أخرى ككتاب رحلات في أفريقيا ومصر وسوريا (١٧٩٩م) لويليام جورج براون وكتاب الوصف الشعبي لمصر (١٨٢٧م) لجوزيف كوندر.
وقد تضمن الأرشيف نسخة من الطبعة الأولى لكتاب دن الأشهر «مقدمة لتاريخ التعليم في مصر الحديثة» الذي طبع في عام ١٩٣٨م. لفتني في هذا الكتاب أن إهداءه جاء لــ«فاطمة» – حيث قال:
أُهدي هذا العمل إلى زوجتي فاطمة
فلولا إلهامها ووفاؤها، لما كُتب هذا العمل.
هذا الإهداء، والذي لم يتطرق له العميم في دراسته يستحق كثيرا من التوقف. ففاطمة تزوجها دن في عام ١٩٤١م كما يذكر العميم في دراسته (انظر ص٨٤ ومواضع كثير أخرى من الاتجاهات طبعة دار جداول). فكيف يهدي دن كتابه المنشور عام ١٩٣٨م إلى زوجته فاطمة ثم يتزوجها عام ١٩٤١م؟ وكيف فاتت هذه المعلومة على العميم؟
الحقيقة، هي أن العميم نشر دراسته عن جيمس هيوارث دن دون أن يطلع على الطبعة الأولى من أشهر كتبه: «مقدمة لتاريخ التعليم في مصر الحديثة». وهذا ما سآتي في تفصيله في المقالات القادمة.
وللحديث بقية...