لا يعرف الزمن وقفةً تاريخية له إلا عند الأمثال الشعبية التي تشكّل حكمة تاريخية ثابتة، وتعاند مفهوم سيرورة الزمن. ويعرف الشعب السوري هذه الوقفة في ترديده المثل القائل: "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً". والسوريون هم أكثر من تجاوز المعرفة النظرية لوقوف الزمن عند تاريخ حقيقة هذا المثل إلى إعادة إنتاجه، لا من باب التاريخ يعيد نفسه، بل من باب التضحيات الهائلة التي أعادت التاريخ إلى نفسه. السوريون سطروا ملحمة ثورية قلَّ نظير تحولاتها وتضحياتها، وخذلانها في التاريخ. فقد كانوا في مجابهة أسطورة دكتاتورية متوحشة، تخطت كل أساليب وحشيات الدكتاتوريات التاريخية.
استطاع دكتاتور سوريا أن يطيل زمن مأساة شعبه، ويوسع بشاعة ولوغه في دمه، وبذلك نقل الثورة السورية من صفاء مطالبها، إلى أن تكون ردة فعل من جنس الفعل الذي حرّكها، فغامت ملامح وجهها المشرق وراء حجب الدخان والنيران العدوة والصديقة، حتى كادت تتشوّه ذاتياً، إضافة إلى ما ألحق بها الحكم المتوحش من تشويه ممنهج كاد يضيّع نسبها إلى الشعب المظلوم، ويدمغها بصورة حركات ظلامية. تحقق هدفه المنشود في استنصار المجتمع الدولي عليها، وتحقق له ذلك في مراحل عدة. إلا أن صوت المظلوم لا يكتمه رصاص، ولا يخنقه كيماوي، هكذا علمتنا الثورة السورية.
انتصرت الثورة بعد أن انتقلت راياتها من يد إلى يد، من جنح حمامة إلى جنح عقاب، واستوت سفينتها على جبل ما علاه جبل من جماجم الضحايا، وركام وطن بيتاً وحجراً وشجراً. وسقط رهان الدكتاتور وعصابته الأمنية في تشتيت قوى الثوار، وتنازعهم في الاستيلاء على السلطة. وكان يعتقد أن تنكيله الذي لم يسبقه مجرم في إبداعه، استلب أخلاقية الثورة الشريفة من نفوس الثوار، وحوّلهم إلى رماة أحد، يخلون مواقعهم للاستئثار بنصيبهم من غنائم السلطة، وتحويل حوارهم إلى اشتباك حربي.
إقرأ أيضاً: شمس العرب تسطع على الغرب ولا تسطع على جبل الشيخ
وكانت الطغمة الحاكمة مستشرسة في غرس التناحر في نفوس الشعب، وخندقته حول دواعي إثنية وعرقية وطائفية، ومناطقية، وطبقية، ونفعية لمن لا انتماء له لما سبق من شرذمة. أخفقت هذه الطغمة في ترسيخ هذا الانقسام وتمكينه، إذ التفت غالبية الشعب حول القيادة المنتصرة، وفوضتها بقيادة المرحلة. من غير شك لا أقصد تغييب فئات المولاة السابقة، وأتباع السلطة من متنفذين ومستفيدين، ومنهزمين.
ومن غير شك كذلك، التفويض ليس غير مقيد بمطالب الثورة الحقيقية. إنه تفويض مرحلي وحسب. وليس من المستهجن أن تتعالى أصوات فئات من المعارضة التقليدية للإسراع بإعلان شكل الدولة وهويتها التي يقيسون نجاح الثورة بها. وبالطبع تشكل هذه الفئات حاملاً جامعاً لإعادة تشكيل تجمع عريض ممن لا يجدون حياة لمشاريعهم إلا في تفتيت قوى الدولة. وفق هذا السياق استلم لواء هذا التشكيل دعاة العلمانية ممن تمرّسوا تاريخياً في اليسار المعارض. ومن غير شك سيجد تأييداً من فلول النظام ويتامى الفساد، والمرتزقة المدعومين من إيران وروسيا وأتباعهما المتضررين من نجاح الثورة.
إقرأ أيضاً: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بالإعلام السوري
ليس من الحكمة الاستهانة بهذا التيار المؤلفة مصالحهم باختراق الثورة. لكن هذا الجمع، على ما فيه من خطورة التحول إلى حصان طروادة، إلا أنه جعجعة بالنسبة لجمهور الثورة العريض الذي يريد الطحين، ويجده عند الإسلاميين، وذلك لأسباب موضوعية، أبرزها أن العلمانية مفلسة الرصيد في وجدان الشعب السوري، فهو لم يسمع منها إلا جعجعة على مدار قهره التاريخي. ولم يعرف العلمانية إلا مؤيدة للدكتاتوريات العربية من جهة، ومن جهة أخرى، ثورة الشعب كانت ضد نموذج صارخ من ادعاء العلمانية، فضلاً عن الأثر السلبي الذي رسّخه أتباع العلمانية عبر تنظيراتهم التي قدّمتها بسوء كيل علم وحشف نية، على أنها دعوة إلحاد، ومناهضة للدين، وممارسات تنتهك القيم العربية الإسلامية، وتشوّه أنساق المجتمع الأخلاقية. هذه المؤثرات لم يعد من السهل نزعها من نفوس غالبية المجتمع السوري. ولم يعد هذا المجتمع يرغب في تعديل مزاجه تجاه هذا التيار، بل يتراءى له عودة الدكتاتور بقناعه. لذلك تبدو غالبية المجتمع شديدة العناد في عداء هذا التيار، وشديدة الحماسة للإسلاميين الذين جاؤوا بطحين الثورة. فالشعب، على الأقل في الحال الذي فيه، وهو أقرب إلى طور النقاهة من عضال فساد ألمّ به، يصم أذنيه عن جعجعة العلمانيين ويفتح عينيه ليرى طحن الإسلاميين. وتلك الهوية التي يتخندق حولها مرحلياً، ويستشرس في الدفاع عنها، ريثما يحصل على الخبز. والشعب السوري يبتسم للرغيف السخن.