كشفت الحرب على غزة عورات ونقاط ضعف السياسة الفلسطينية مقابل الاستراتيجية والرؤية السياسية الإسرائيلية الواحدة في التعامل مع الحرب وتداعياتها وتوظيف كل المتغيرات المتحكمة فيها. فالاستراتيجية في أبسط معانيها تعني الرؤية الواحدة والأهداف الواضحة والآليات لتنفيذها وصولاً لتحقيق هذه الأهداف. وبقراءة وتتبع تطورات هذه الاستراتيجية، نجد المفارقة الكبرى أنها تتم في ظل تعميق حالة الانقسام الفلسطيني، وكأنَّ الحرب على غزة في مكان آخر، ففي كل مراحلها بدءاً من عملية الطوفان، كانت رؤية حماس هي المهيمنة والمسيطرة على كل مراحلها التالية مع غياب واضح للرؤية الفلسطينية الواحدة، وإن وجدت فدورها محدود لا يخرج عن البروتوكوليات والشكليات الدبلوماسية. وهذه الرؤية المغيبة ليست سمة خاصة بالحرب على غزة، بل هيمنت منذ سيطرة حماس على غزة ودخولها في دوامة الحرب، لنصل إلى هذه الحرب التي تجاوزت في أهدافها غزة والقضاء على حماس، لتصل إلى محاولة غلق كل ملفات القضية الفلسطينية من اللاجئين والدولة الفلسطينية والقدس، وحتى محاولة فرض الخيارات التي تسعى إسرائيل إلى فرضها على الفلسطينيين.
وغياب هذه الاستراتيجية الواحدة صفة واكبت تطورات السياسة الفلسطينية في كل مراحلها، وهنا التشتت والتعدد في هذه الرؤى بين رؤية منظمة التحرير وهي رؤية فتح، ورؤية الفصائل الأخرى، لتصل إلى حد التنازع والتناحر والصراع كما نراها اليوم في الحرب على غزة. ولعل سؤال الاستراتيجية الفاعلة يقف وراء تراجع العمل الفلسطيني وتراجع تحقيق الأهداف السياسية، فهي استراتيجية مرحلية وقتية تبرز مع كل حكومة إسرائيلية جديدة. ورأينا فشل استراتيجية ومقاربة أوسلو، وكيف نجحت إسرائيل في تحويلها إلى مجرد اتفاق أمني، والفشل في بناء سلطة وطنية فلسطينية واحدة، والفشل في تفعيل دور منظمة التحرير وتحويلها لمجرد هيكل تابع للسلطة وتحولها لهيكل هش لتقدم العمر، والفشل في الانتخابات الفلسطينية بهدف تشكيل وبناء نظام سياسي ديمقراطي باستراتيجية واحدة ملزمة لكل القوى الفلسطينية، مقارنة بإسرائيل التي تتسم بتعدد الأحزاب والقوى السياسيَّة، لكنها كلها محكومة بالاستراتيجية والأيديولوجية الصهيونية التي تأسست مع مؤتمر بال عام 1897، والذي أرسى هدفاً واضحاً في بناء الوطن أو الدولة القومية اليهودية والتي نجحت حتى الآن في قيامها، في الوقت الذي نرى فيه الاستراتيجية الفلسطينية غير متفقة على هذا الهدف الرئيس، وهو الدولة الفلسطينية وماهيتها وكيفية الوصول إليها، بدليل الانقسام والانقلاب الذي قامت به حماس، وكانت نتيجته الحرب الحالية التي أخذت في طريقها الكثير من الأهداف الفلسطينية.
إقرأ أيضاً: نعم لدينا ساسة لا رجال دولة
ولو نظرنا لهذه الحرب، سنجد غياباً واضحاً للاستراتيجية الفلسطينية وهدف الدولة الفلسطينية، بتمسك حماس برؤيتها وأهدافها في البقاء والحفاظ على وجودها في غزة، ولو جاء ذلك على حساب الهدف الوطني الفلسطيني الواحد. وفي هذا السياق، تبرز أهم إشكاليات الاستراتيجية الفلسطينية في أولوية الحكم لفتح في الضفة الغربية وهدف الحكم لحماس في غزة. ومن مظاهر هذه الاستراتيجية أيضاً الاختلاف حول ماهية وأشكال المقاومة الأكثر فاعلية في تحقيق الهدف الرئيس، وهو الدولة الفلسطينية، والتباين، بل الصراع، الواضح بين حماس التي تمسكت بخيار المقاومة المسلحة والسلطة وخيار المقاومة السلمية، وحتى في سياق هاتين الرؤيتين، هناك خلاف واضح حول أي مقاومة عسكرية وأي مقاومة سلمية.
ومن مظاهر الاستراتيجية غير الفاعلة عدم القدرة على توظيف المتغيرات والمحددات التي تحكم القضية الفلسطينية، وأبرزها المحدد العربي، ورأينا في كثير من مراحل العلاقة عدم التنسيق، بل الخلاف في كيفية التعامل مع هذا المحدد، ولعل أبرز الأمثلة غزو العراق للكويت، واليوم في كيفية توظيف هذا المحدد في الحرب على غزة، بل إن حماس لها رؤيتها وتحالفاتها الإقليمية التي قد لا تتفق معها السلطة الفلسطينية والاستراتيجية الفلسطينية الوطنية. وعلى المستوى الدولي، هناك تباينات واضحة وعدم قدرة في تفعيل هذا المحدد الرئيس في تطورات القضية الفلسطينية، وهنا تبرز أكبر إشكاليات العلاقة: أن المتغير الفلسطيني تحول لمتغير تابع لهذه المتغيرات، وهو ما يفسر لنا الفشل في تحقيق الأهداف الفلسطينية في قيام الدولة الفلسطينية، وأي دولة نريد.
إقرأ أيضاً: غزة ونظرية الفراشة والبجعة السوداء!
ولعل من أبرز مظاهر هذه الاستراتيجية غياب كيفية التعامل مع المتغير الرئيس في تشكيل هذه الاستراتيجية، وهو المتغير الإسرائيلي، وهو المتحكم في القرار والسياسة الفلسطينية، فبدلاً من التأثير المباشر عليه بكيفية التعامل مع مكونات السياسة الإسرائيلية الداخلية وكيفية التعامل مع المتغير العربي والقوى السياسية وخاصة اليسارية فيها، نجد حالة من الانفصال والتراوح بين التواصل والانفصال، بل تحكم إسرائيل في كل مقومات بقاء السلطة الفلسطينية بالتحكم في القدرات المالية والأمنية. ويبقى العنصر المهم في عناصر هذه الاستراتيجية البعد الخاص بالشرعية الدولية وقراراتها الكثيرة وعدم القدرة في تفعيلها، وكما رأينا في الحرب على غزة، وآخرها قرار الجنائية الدولية باعتقال بنيامين نتنياهو، والذي تجاهل هذا القرار بزيارته للمجر الأخيرة.
المطلوب استراتيجية فلسطينية وطنية بحجم القضية الفلسطينية بكل أبعادها ومحدداتها، وخصوصاً الإقليمية والدولية؛ استراتيجية تقوم على الوحدانية الوطنية والأهداف الواقعية والآليات والوسائل الممكنة. وأخيراً، أهم عنصر في هذه الاستراتيجية هو كيفية الحفاظ على وحدانية الشعب الفلسطيني والحفاظ على صموده وبقائه على أرضه، وعنصر الأرض، وهما المكونان الرئيسان لقيام الدولة الفلسطينية.