في شمال شرق سوريا، على أطراف الصحراء، يُحتجز أكثر من 58 ألف عنصر وذويهم من تنظيم داعش، يتوزعون على عشرات المعسكرات والسجون الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية، ينتمون إلى 64 جنسية مختلفة، وتحديداً نحو 1300 منهم يحملون جنسيات أوروبية – مئة ألماني، مئة وثمانون فرنسي، والبقية من هولندا، بلجيكا، السويد، والدنمارك، وبولندا، والنمسا، والمجر وغيرها. هذه الأرقام لا تشمل أولئك الذين أُعيدوا سراً أو علناً إلى دولهم خلال السنوات الماضية، وهو أكثر من 10 آلاف عنصر مقاتل ومساند طوال سنوات الصراع، لكنها تمثل كتلة متماسكة من التطرف، معلقة ما بين الحياة والموت، تنتظر انفجاراً ما.
منذ سقوط خلافة داعش المزعومة في عام 2019، لم تُقدّم الدول الأوروبية موقفاً موحداً أو واضحاً بشأن هؤلاء المحتجزين. تتعامل الحكومات معهم كفيروس يجب عزله في الصحراء لا مواجهته داخل النظام القضائي، وكأن القضاء الأوروبي عاجز عن محاكمة مجرميه، وبينما تتحمل قوات سوريا الديمقراطية وحدها مسؤولية هؤلاء، تبدو أوروبا وكأنها تطبق مبدأ (أبعد النار عن بيتك ولو احترق العالم).
الخطر الحقيقي ليس فقط في 1300 داعشي أوروبي، بل في الأيديولوجيا التي لم تُهزم بعد. أطفال المخيمات، الذين لم يعرفوا من العالم سوى المخيمات والأسلاك، ينمون في بيئة مثالية لصناعة متطرفين أشد شراسة. إذا لم يُعاد دمجهم وتأهيلهم تحت رقابة وطنية صارمة، فسيصبحون قنابل مؤجلة، وساحات الصراع القادمة قد لا تكون في سوريا والعالم الإسلامي، بل في قلب أوروبا ذاتها.
إقرأ أيضاً: العباءة الممزقة: من سيرث القاعدة في زمن التصدع؟
ما تتجاهله الدول الأوروبية هو أن هذه المعسكرات، بمرور الوقت، لم تعد مجرد مراكز احتجاز، بل باتت مصانع صمت تنضج فيها سرديات جديدة عن الظلم والخذلان والبطولة المزيفة. صناع داعش يعرفون تماماً كيف يستثمرون في الضحية، حتى لو كانت وهمية. التنظيم الذي استخدم الإنترنت بمهارة لتجنيد مقاتليه من باريس وبروكسل وبرلين، يستطيع أن يعيد التدوير النفسي لعناصره إن تُركت دون برامج إعادة تأهيل، أو محاكمة عادلة.
لا أحد ينكر أن بعض هؤلاء ارتكبوا جرائم بشعة تستوجب أقسى العقوبات، لكن تركهم بدون محاكمات، يعكس فشلاً أخلاقياً وقانونياً. كيف تدعي أوروبا أنها حامية حقوق الإنسان، وهي تترك مواطنيها عرضة للأمراض النفسية والجسدية، وأرضاً خصبة للتطرف؟ وما الرسالة التي ترسلها إلى شعوبها؟ أن الإرهاب يُنفى فقط، وأن العدالة الانتقائية مسموحة حين يتعلّق الأمر بالأيديولوجيا؟
الأوروبيون يعرفون أن المشكلة لن تُحلّ بتجاهلها. وكل يوم يمر دون قرار، يزيد من تعقيد المعضلة. المعسكرات مثل الهول، وروج، والعيسى، تتحول تدريجياً إلى نقاط انهيار إنساني، ومواقع تهديد أمني. تم توثيق محاولات هروب جماعية، وهجمات من الخارج لتحرير السجناء، بينما يقاتل الأكراد بمحدودية الموارد والصلاحيات، نيابةً عن العالم الذي سلّمهم هذه القنبلة وابتعد.
إقرأ أيضاً: سَحَرَةُ الظِلّ: جمهورية الطلاسم الحوثية
ثمة مؤشرات على أن التنظيم يعيد بناء خلاياه من داخل هذه المعسكرات. الرسائل المشفرة تتنقل بين الأمهات الأرامل والشبان العائدين من الجبهات، والدروس تستمر في الخيام، كما في الزنازين، بلغة جديدة من التطرف الصامت. ما بين العزلة والاحتقار، تنمو بذور العنف القادمة.
في المستقبل القريب، قد تضطر أوروبا للتعامل مع ظاهرة (عودة الجحيم من الصحراء)، لكن هل ستكون مستعدة؟ وهل ستنتظر الانفجار كي تتحرك؟ أو تستبق الكارثة بسياسات رشيدة تعيد مواطنيها، تضعهم أمام القانون، وتمنع تهديداً قادماً، هو اليوم صامت، وغداً عاصف ومدمّر؟ القرار لم يعد أخلاقياً فقط، بل هو أمني، وجودي، وضروري.
لقد أسقطت أوروبا عن نفسها عباءة الإنسانية حين تركت مواطنيها في أرض النزاع تحت رحمة المجهول. لكن ما لم تدركه بعد، أن النار التي أشعلها داعش لن تبقى في بلاد العرب، وأن كل طفل يولد هناك بلا أمل قد يكون الصاعق التالي. استعيدوا دواعشكم، أو حاكموهم، ولكن لا تعيدوا إنتاج داعش بإهمالكم.