: آخر تحديث

من يستلم يقرّر: جور ووجوه تتكرر!

15
13
12

ما أشبه البدايات بالنهايات، وما أشبه الوجوه التي تتبدّل بتلك التي سبقتها!

حين يُخلع نظامٌ مستبدّ من موقعه، تُقرع طبول الفرح كما لو أن فجرًا جديدًا بزغ بعد ظلمة طويلة. لكن، سرعان ما يكتشف الناس أن المسرح لم يتغيّر كثيرًا، وأن التمثيل مستمرّ بوجوه جديدة، ولكن بنصٍّ قديم، حتى وإن اختلفت شعاراته، أو تضادت مع السابق، عبر منهج أكثر تحايلاً، وأنجع سطوة وتخديراً.

لقد قيل إنَّ المرحلة السابقة انتهت، وإن صفحة جديدة بدأت. لكن بأي وسيلة؟ لم تكن ثورة حقيقية على نظام الظلم، بل مجرّد انتقال شكلي في سلطة القرار، وفق منطق التسليم والتسلُّم، لا بناءً على تفكيك منظومة الاستبداد، ولا على قاعدة محاسبة ومراجعة جذرية، عبر تطبيق العدالة الانتقالية الموعودة!

رفعوا شعار: "من يحرّر يقرّر"، لكن من الواقع تبيّن أن أحدًا لم يحرّر، بل جرى ترتيب استلامٍ محسوب، أنتج منظومة جديدة بلباس مختلف. الذين تسلّموا زمام الأمور لم يستمدوا مشروعهم من الإرادة الشعبية، بل من توازنات مشبوهة، وحسابات مغلقة. ومنذ اللحظة الأولى، ظهر التوجّه للهيمنة على القرار، وإقصاء كلّ من لم يبارك النسخة الجديدة للسلطة.

ما تمّ لم يكن تأسيسًا لمرحلة تعددية، بل إعادة تدوير مركزة القرار. لم تبن مؤسسات عادلة، بل أُعيد إنتاج العقلية ذاتها التي كانت سائدة في النظام السابق. فالإقصاء طال كل من لم يُعلن الولاء المطلق لقيادة المرحلة، حتى وإن كان من أوائل الذين ضحّوا، وناضلوا من أجل التحرّر الفعلي.

صحيح أنّ من كانوا في قلب الحاشية القديمة يستحقّون تقديمهم للمحاكم.. كل بحسب ما ارتكبه من ضرر وانتهاكات، بل وممارسة الإقصاء بحقهم، نظراً لما اقترفوه بحقّ البلاد. غير أنّ ما جرى تجاوز ذلك، إذ أُقصيَ أيضاً كثيرون من أصحاب الكفاءة، ممن لا صلة لهم بالنظام البائد، فقط لأنهم لا ينتمون إلى الدائرة السياسية التي أعيد إنتاجها، في إطار ضيق ورؤى جد خاصة، أو لأنهم لم يصفّقوا بما يكفي لسلطة الأمر الواقع.

إقرأ أيضاً: قراءة نقدية قانونية للدستور الجديد: إشكاليات التمييز والهوية والمواطنة

وما بدا أكثر فظاعة هو أنّ الاختيار اقتصر على لون واحد، من بيت واحد، من جهة واحدة. لم تُبنَ السلطة على قاعدة التعددية، بل على محورية الولاء، حتى وإن كان ذلك على حساب الكفاءة والنزاهة. وبهذا، تحوّلت مؤسسات الدولة إلى مجرد واجهات لسلطة متسلّطة، تتكرر فيها نفس أنماط الإقصاء والتهميش.

منظومة القرار الحالية لم تتجه نحو العدالة، بل نحو تثبيت الهيمنة بأساليب ناعمة. تمّ تجميل الاستفراد، وتزيين التفرد، باستخدام خطاب مدني، لكنه يحمل في جوهره كل ملامح النظام الذي سُمي "سابقًا". لم يُفتح باب المشاركة، بل أُغلق بإحكام، مع تصنيف المعارضين بأنهم خصوم للثورة، أو عملاء، أو مجرد أصوات نشاز.

كل من لم يأتِ من العائلة السياسية الجديدة، أو لم يردّد ما يُراد له أن يردّده، بات منفيًّا، وإن بقي في مكانه. لا قيمة لتاريخه، ولا لصدقه، ولا لحلمه. المهمّ أن يكون صدى لسلطة تستمد شرعيتها من السيطرة، لا من الناس. هكذا، صارت الثورة أداة بيد فئة، لا مشروعًا جامعًا لكل من ضحّى من أجلها.

إقرأ أيضاً: خطوط في خريطة طريق أمام السوريين

"من يستلم يقرر الشعار الأصل في إخراجه المفروض" من يحرر يقرر""، لا تعني هنا الشجاعة في تحمّل المسؤولية، بل تعني الهيمنة. لا تعني البناء، بل الإخضاع. كل قرار يُتخذ داخل دائرة ضيّقة، دون مساءلة، دون محاسبة، دون اعتراف بتعدد الآراء. المؤسسات تُستخدم غطاءً للقرار الفردي، والشرعية تُمنح لمن يصفّق، لا لمن يقترح ويعارض وينتقد.

لقد بدا المشهد وكأن السلطة لم تُنتزع من النظام السابق، بل استمرّت روحه في نفوس من ورثوه. من استلموا دفة القيادة منه، وإن رفعت التقديس عن الدكتاتور" المتأله" كي يتم الحكم باسم وكلاء الإله.  الذهنية المغلقة عينها، الاحتقار للمخالف نفسه،  الترويج لزعامة مصطنعة ذاتها ، يتمّ التسويق لها بكل الوسائل، حتى لو احترقت القرى والمدن وتبعثرت الكرامات.

الثورة لم تكن ضدّ شخص، بل ضدّ منطق الحكم كغنيمة، والسلطة كملكية. من قادوا المرحلة بعد النظام، لم يدركوا ذلك، بل تورطوا في تكرار النموذج، مع طلاء جديد. لم تكن لهم الجرأة على مواجهة الذات، ولا على بناء نموذج حكم عادل، شفاف، قائم على الشراكة، لا الإقصاء.

ومن هنا، فإن التغيير الحقيقي لا يكون بتبديل العناوين، بل بتفكيك البنية العميقة للاستبداد. حيث لا يُقاس التقدّم بعدد الاجتماعات والمؤتمرات، بل بمدى تمكين المواطن من حقّه في القرار. ولا تُقاس الوطنية بمقدار الولاء للسلطة، بل بمقدار الشفافية، وفتح الأبواب للنقاش، والاعتراف بالآخر.

إقرأ أيضاً: حكومة دمشق الانتقالية: في امتحان الاعتراف بحقوق الكرد

ما لم تخرج السلطة من قوقعتها، وتُعدّل منطقها، وتفسح المجال أمام كل الطيف الوطني، فإنها ستتحوّل إلى نسخة جديدة من منظومة قديمة، وستخسر أخطر ما يمكن أن تخسره أي قيادة: ثقة الناس، وإن كان الحكم باسم سلطة السماء بعد أن كانت باسم سلطة الأرضين!

إنَّ استمرار هذا النمط من الحكم سيعيد إنتاج المأساة. قد يختلف الاسم، واللباس، والعلم، ولكنّ المضمون سيظلّ نفسه: إقصاء، قهر، تزييف، وتكريس السلطة لفئة على حساب وطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.