مشهد مقلق يتكرر في أزقة دمشق والساحل والسويداء وحمص، وهمسات خافتة عن تحركات مريبة، أو ربما حتى اشتباكات خاطفة تذكّر بعهد ولى ظاهريًا؛ هذه ليست سوى لمحات عابرة تكشف عن حقيقة مقلقة: إنهم "فلول الأسد"، أولئك الذين تبقوا من جيشه وأجهزته الأمنية بعد هروبه وسيطرة هيئة تحرير الشام على مقاليد الحكم. يثير هذا الوجود والتصرفات المتزايدة لفلول النظام السابق تساؤلاً محوريًا: كيف يؤثر هذا النشاط على استقرار السلطة الجديدة في سوريا، وعلى أمن وسلامة المواطنين الذين يتطلعون إلى مستقبل مختلف؟ إنَّ فهم هذه الظاهرة ليس مجرد استطلاع للماضي، بل هو ضرورة حتمية لفهم مسار المرحلة الانتقالية الراهنة وتحديد مستقبل هذه المنطقة التي عانت طويلًا.
عند حدوث تغيير جذري في السلطة، كما هو الحال مع هروب بشار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، تنشأ فترة من عدم الاستقرار والفراغ المؤسساتي والقانوني. في هذه المرحلة الانتقالية، تكون هياكل السلطة الجديدة قيد التشكيل والتثبيت، وقد تعاني من ضعف نسبي في فرض القانون والنظام على كامل المناطق الخاضعة لسيطرتها. تستغل فلول الأسد هذا الفراغ الأمني والإداري لتنفيذ أنشطتها بحرية أكبر، وقد يجد أفرادها صعوبة أقل في التخفي والتنقل والتواصل فيما بينهم. كما أنَّ ضعف المؤسسات الجديدة قد يجعل من الصعب عليها تتبّعهم واعتقالهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم استغلال حالة عدم اليقين والفوضى لزرع بذور الفتنة وتنفيذ عمليات تخريبية بهدف إبطاء عملية تثبيت السلطة الجديدة في دمشق وإظهارها كقوة غير قادرة على السيطرة.
من المعروف أنَّ نظام الأسد بنى على مدى عقود شبكات واسعة من الولاءات داخل الجيش والأجهزة الأمنية والإدارة المدنية وحتى في أوساط المجتمع. تعتمد هذه الشبكات على روابط شخصية ومصالح مشتركة وأيديولوجيات مؤيدة للنظام. حتى بعد سقوط رأس النظام، قد تظل هذه الشبكات قائمة بشكل سري أو ضمني، ويمكن للعناصر المتبقية من النظام الاعتماد على هذه الشبكات لتلقي الدعم اللوجستي (مثل المأوى والغذاء والتمويل) وتبادل المعلومات وتنسيق الأنشطة. وقد تعمل "خلايا نائمة"، ظلت كامنة خلال فترة حكم الأسد بشكل أقل علنية، على تنفيذ أوامر سرية أو نشر معلومات مضللة. هذه الشبكات توفر لهم غطاءً سريًا وقدرة على التحرك والتأثير دون أن يتم اكتشافهم بسهولة من قبل السلطة الجديدة.
إقرأ أيضاً: بناء الجيش العربي السوري الجديد
وقد تكون هناك قوى إقليمية أو دولية لا ترى في سيطرة هيئة تحرير الشام مصلحة لها، لهذا تسعى هذه الجهات إلى إضعاف السلطة الجديدة أو حتى إزالتها من خلال دعم قوى معارضة لها، بما في ذلك فلول النظام السابق. ويمكن أن يتخذ هذا الدعم أشكالًا مختلفة، ناهيك عن إمكانية أن يصبح فلول الأسد أداة في يد هذه القوى الخارجية، وقد يتلقون منهم تمويلًا أو أسلحة أو تدريبًا أو معلومات استخباراتية مقابل تنفيذ أجندات معينة تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة وتقويض سلطة هيئة التحرير. هذا الدعم الخارجي يمكن أن يمنح الفلول قوة ونفوذًا أكبر مما قد يمتلكونه بمفردهم، ويسمح لهم بتنفيذ عمليات أكثر تعقيدًا وتأثيرًا.
وهنا يجب أن نؤكد أنه ليس كل السكان أو العناصر الأمنية والعسكرية كانوا بالضرورة معارضين لنظام الأسد، وقد يكون هناك من يشعر بالولاء له لأسباب مختلفة (مثل الانتماء الطائفي أو المصالح الشخصية التي تحققت في عهده أو الخوف من البديل). بالإضافة إلى ذلك، قد يشعر بعض السكان بالقلق أو عدم الارتياح تجاه حكم هيئة تحرير الشام لأسباب أيديولوجية أو بسبب ممارسات معينة، أو خوفًا من تداعيات هذا الحكم على علاقات المنطقة مع قوى أخرى. ولهذا، يمكن لفلول الأسد استغلال هذا الاستياء والسخط الموجود لدى بعض الفئات. ومن خلال هذا، قد يحاولون تجنيد أفراد جدد من هذه الفئات أو الحصول على دعم لوجستي أو معلوماتي منهم. كما يمكنهم تأجيج هذا الاستياء من خلال الدعاية المضادة ونشر الشائعات بهدف تقويض شرعية هيئة التحرير وكسب تأييد شعبي ضمني أو علني لأنشطتهم.
إنَّ احتفاظ بعض عناصر النظام البائد بأسلحة أو معلومات استخباراتية قيمة يمنح الفلول القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية. فالأسلحة تمكنهم من الاشتباك المسلح وتنفيذ عمليات تخريبية، والمعلومات الاستخباراتية يمكن أن تساعدهم في التخطيط لعملياتهم وتجنّب اكتشافهم واستهداف نقاط ضعف السلطة الجديدة. هذه القدرات تجعلهم يشكلون تهديدًا حقيقيًا للأمن والاستقرار، حتى لو كانوا لا يمتلكون قوة عسكرية كبيرة بشكل علني.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وتغيير قواعد اللعبة على الساحة السورية
إن بقاء ونشاط فلول الأسد هو نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل مختلفة، أهمها ضعف السلطة الجديدة في المراحل الأولى، واستمرار هياكل النظام القديم السرية، والتدخلات الخارجية المحتملة، بالإضافة إلى وجود حاضنة اجتماعية ولو جزئية، ناهيك عن القدرات المادية والمعلوماتية المتبقية لديهم. إن فهم هذه الأسباب المتداخلة ضروري لوضع إستراتيجيات فعالة للتعامل مع هذا التحدي.
إن أهم مظاهر نشاط فلول الأسد هي العمليات السرية والتخريب، وتنفيذ هجمات نوعية مثل الاغتيالات والتفجيرات الصغيرة وعمليات التخريب التي تستهدف زعزعة الأمن وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وهذا ما حدث في الساحل السوري بداية الشهر المنصرم. والنشاط الثاني لفلول الأسد يتركز حول الدعاية المضادة، حيث نُشرت أخبار كاذبة وشائعات مغرضة عبر وسائل مختلفة بهدف تشويه صورة هيئة تحرير الشام وإثارة الشكوك حول قدرتها على الحكم وتأليب السكان ضدها. والنشاط الثالث للفلول هو سعي العناصر القيادية المتبقية من النظام البائد إلى جمع شتات الموالين وتشكيل مجموعات منظمة بهدف استعادة نفوذهم أو مقاومة الحكم الجديد. ولعل النشاط الأبرز للفلول هو محاولة إدخال عناصر موالية لهم في المؤسسات الجديدة أو التأثير على قراراتها من الداخل لخدمة أجندتهم أو عرقلة عملها. كل هذا النشاط نُفّذ بالاستفادة من الفساد والفوضى واستغلال أي ضعف أو ثغرة في الإدارة والأمن القائمَين لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة أو لتمويل عملياتهم السرية.
إن ما يقوم به فلول النظام البائد بكافة أشكاله يؤثر بشكل أو آخر على الوضع الراهن من خلال تهديد الاستقرار الأمني، إذ يؤدي نشاطهم إلى خلق بيئة غير آمنة مما يبث الخوف والقلق بين السكان ويعيق عودة الحياة الطبيعية. كما يُظهر استمرار نشاط الفلول وجود تحدٍ لسلطة الهيئة وقدرتها على فرض سيطرتها الكاملة والحفاظ على الأمن. كما أن حالة عدم الاستقرار الأمني تعيق جهود إعادة بناء ما دمرته الحرب وتعيق أي محاولات لتحقيق مصالحة حقيقية بين الأطراف المختلفة. واستمرار الفلول في نشاطهم سيؤدي إلى تأجيج الانقسامات المجتمعية وتوسيع دائرة الاستياء وزيادة حدة التوتر بين مختلف فئات المجتمع، وهذا سيؤدي بدوره إلى تقديم ذريعة للتدخلات الخارجية في المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب أو إعادة الاستقرار، مما يزيد من تعقيد المشهد.
إقرأ أيضاً: روسيا وتطوير البرنامج النووي الإيراني
إن أهم التحديات التي تواجه السلطة الجديدة في دمشق هي عمل شبكات الفلول غالبًا بسرية وتداخلها مع هياكل اجتماعية قائمة، مما يصعّب كشفها وتفكيكها. ولعل التحدي الأبرز هو معاناة الأجهزة الأمنية والقضائية الجديدة من نقص في الموارد والخبرات اللازمة لمواجهة أي تهديد مركب متطور. ومن أهم التحديات وأخطرها إثارة برامج المصالحة قضايا حساسة تتعلق بالعدالة والمحاسبة، وقد يرفض البعض فكرة المصالحة مع عناصر مرتبطة بالنظام السابق. كما يمكن للضغوط الاقتصادية الصعبة أن تخلق بيئة خصبة لاستغلال الفلول للاستياء وتجنيد عناصر جديدة. وقد يكون من الصعب بناء ثقة السكان وتعزيز الوعي بمخاطر الفلول في ظل وجود معلومات متضاربة ودعاية مضادة. ويمكن القول إن أهم التحديات وأخطرها هو وجود مقاتلين ضمن صفوف الجيش السوري الجديد من جنسيات غير سورية، والأخطر أن هؤلاء يحملون الفكر التكفيري وغالبًا ما نجدهم خارج سيطرة القانون.
من خلال هذه التحديات، لا بد من التطرق إلى الحلول المحتملة لهذا الوضع المركب والمعقد، وأول هذه الحلول تعزيز الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من خلال استثمار الموارد في تدريب وتجهيز هذه الأجهزة، وتطوير قدراتها في جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية للكشف المبكر عن أنشطة الفلول. ثانيًا، بناء نظام قضائي عادل وفعال من خلال إنشاء محاكم مستقلة ونزيهة قادرة على محاسبة المتورطين في جرائم الماضي وفقًا للقانون، مما يعزز سيادة القانون ويقلل من الشعور بالإفلات من العقاب. ثالثًا، تنفيذ برامج مصالحة وطنية شاملة من خلال إطلاق مبادرات للحوار المجتمعي ومعالجة مظالم الماضي بشكل عادل ومنصف، وتقديم آليات لدمج العناصر غير المتورطة في بناء مستقبل جديد. رابعًا، تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية من خلال تنفيذ إصلاحات اقتصادية وتوفير فرص عمل وتحسين الخدمات الأساسية لتقليل حالة اليأس والاستياء التي قد يستغلها الفلول. خامسًا، تعزيز الوعي المجتمعي من خلال إطلاق حملات توعية لتوضيح مخاطر الفلول وأهمية الوحدة الوطنية والتعاون مع السلطات الجديدة للحفاظ على الأمن والاستقرار. سادسًا، التعاون الإقليمي والدولي من خلال تبادل المعلومات والخبرات مع الدول والمنظمات المعنية بمكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة مع الحفاظ على السيادة الوطنية وتحقيق المصالح المشتركة. سابعًا، لا بد من إيجاد حل مستدام للعناصر الغرباء في الجيش السوري من خلال ترحيلهم إلى بلادهم مع إعطائهم مكافآت مجزية يمكن أن يبدؤوا بها حياتهم الاجتماعية بعد تنفيذ برامج تأهيل داخل بلادهم.
في الختام، لا يمكن التقليل من شأن استمرار نشاط فلول الأسد، فهم يشكلون تهديدًا حقيقيًا يعيق تقدم المرحلة الانتقالية ويستنزف جهود تحقيق الاستقرار. لذا يصبح التعامل الحاسم والذكي مع هذه الظاهرة أمرًا بالغ الأهمية، من خلال تبنّي إستراتيجية متكاملة لا تركز فقط على الجوانب الأمنية والقضائية، بل تمتد لتشمل معالجة الأسباب الجذرية عبر إصلاحات اجتماعية واقتصادية. على الرغم من التحديات، يبقى الأمل معقودًا على إمكانية تجاوز هذه العقبة وتحقيق الاستقرار المنشود شريطة اتخاذ الإجراءات الصحيحة والمستدامة. ويبقى السؤال مطروحًا: ما هي المسؤولية التي تقع على عاتق المجتمع الدولي والإقليمي، وخاصة العربي، والأطراف المعنية لتقديم الدعم اللازم لضمان نجاح هذه الجهود وتحقيق مستقبل آمن ومزدهر لسوريا وللمنطقة؟