العالم الذي نعيش فيه موجود حولنا كما نعتقد ونشعر وهو مادي كما نحسه ونلمسه، ولكن هل هذه حقيقة مطلقة؟ ألا يمكن أن يكون وهماً أو واقعاً افتراضياً لكننا لا نعلم به ولا نعرفه، وهل توجد فعلاً حقيقة مطلقة أم أن كل شيء نسبي عدا الوجود بشموليته وتركيبته المطلقة اللانهائية؟ كل ما نقوله ونفعله ونكتبه وننشره، يبقى مستعصياً وغير مفهوم ومهملاً من قبل الأغلبية الساحقة من الكائنات الحية الموجودة على هذه الأرض، لذا فإن معلوماتنا الكونية محكومة بما لدينا من معطيات متراكمة ومعلومات وفرتها لنا مراصدنا الأرضية والفضائية وكلها محكومة بعقبة محدودية سرعة الضوء، والتي لا تتجاوز الــ 299792 كلم/ثانية وتجاوزاً نقول 300000 كلم/ثانية، بمعنى آخر إن الضوء القادم إلينا من أقرب جارة لنا وهي مجرة آندروميدا يحتاج إلى مليوني سنة ونصف من سنواتنا وهو يسير بهذه السرعة الهائلة ما يعني أنه عندما يصل إلينا يكون قد مضى على عمر المجرة مليونين ونصف المليون سنة أي إن ما يصلنا هو ماضيها السحيق و لا نعرف وضعها الحالي وحاضرها وهل ماتزال على قيد الحياة أم اختفت، فلو كان الضوء الواصل إلينا يحمل لنا صورة المجرة فستكون قد عفا عليها الزمن، فما بالك لو جاء الضوء من أماكن كونية أبعد بكثير؟ إنه شعور بالعجز والجهل المطبق الدائم والإحباط المسيطر علينا ونحن نبحث في ظلام الوجود عن بصيص أمل أو ضوء في نفق مظلم قد لا نعثر عليه أبداً، فكوننا المرئي يبقى مجهولاً ولغزاً حتى على أكبر العقول. فمن المستحيل على البشرية أن ترصد يوماً تخوم الكون المرئي أو المنظور، فما بالك بما يوجد وراء الأفق الكوني؟ لقد فرضت علينا طبيعة المادة أن تكون سرعة الضوء محدودة ومحسوبة بدقة وهي تنتقل داخل الفراغ الكوني. وبالرغم من ذلك يواصل العلماء جهودهم الحثيثة للكشف عن الحقيقة العلمية ومواصلة الرصد والمشاهد وإجراء التجارب على الأرض وفي الفضاء الخارجي وسبر أغوار البيئة مابين النجمية ووضع الفرضيات والنظريات العلمية وتطبيق قوانين الكون المرئي الفيزيائية ومنها نظرية الانفجار العظيم التي هي لحد الآن أفضل ما لدينا للحديث عن تاريخ الكون المرئي منذ لحظة البدء إلى يوم الناس هذا. بيد أن هذه النظرية العلمية ما يزال يشوبها الغموض والمفارقات ومعضلات وتحديات لم تحل بعد ومن أهمها فرضية التضخم الكوني المفاجيء والهائل الذي حدث مباشرة بعد الانفجار الكبير وحقق حجم الكون المرئي المهول الذي نراه اليوم، فهو إذن مرحلة في غاية الأهمية من تاريخ الكون المرئي حدث فيها توسع أسي مذهل أي أن التضخم هو الوحيد الذي من شأنه أن يفسر لنا لماذا يوجد كوننا المرئي بهذه السعة المهولة. ويعتقد أن مرحلة التضخم حدثت قبل تلك التي يصفها لنا النموذج المعياري الكوسمولوجي عندما توفرت طاقة قصوى بلغت الــ 1015GeV. من هناك لا يمكن أن نعتبر التضخم نظرية بالمعنى المتعارف عليه، تحل محل الرؤية التقليدية التي لدينا عن الكون المرئي قبل سنوات الثمانينات من القرن الماضي، بل جاء التضخم ليكمل تلك الرؤية ويدعمها ويطورها ويجعلها أكثر مقبولية ويشرح بعض ما شابها من غموض. وبفضل المعطيات الجديدة والمعلومات العلمية الدقيقة التي وفرها لنا تلسكوب بلانك الفضائي بتنا نفهم أكثر فأكثر هذا الحدث الكوني لكننا مازلنا لا نعرف سبب وكيفية حدوثه وطبيعته أو ماهيته الحقيقية، لكنه أعتبر حدثاً كونياً لا بد منه رغم خصوصية وفرادته، في إطار النماذج النظرية التي وضعت عن مراحل الكون البدئي لا سيما الأبسط من بينها. لم يكن ممكناً التفكير به في حدود الأسس النظرية النيوتنية حيث الثقالة دائماً جاذبة وبالتالي فهي تحد أو تمنع أو تعرقل عملية التوسع الكوني، ولقد اتضح لنا بكل جلاء أنها رغم صلاحيتها إلا أنها غير كافية لتفسير العديد من الظواهر الكونية الجوهرية وعلى رأسها وصف وشرح قوة الجاذبية على نحو كامل مما تطلب ضرورة إيجاد نظرية تتجاوزها عن الجاذبية وكانت تلك النظرية هي النسبية العامة الآينشتنية والتي تقول أن أي شكل من أشكال الطاقة يمتلك نوع من الجاذبية الطاردة أو النافرة والجاذبة حسب الظروف، ليس فقط بفعل كثافة الطاقة بل وأيضاً بفعل الضغط الذي يمكن أن يؤثر على الحقل الثقالي أو حقل الجاذبية الذي يخلقه جسم فضائي ما وإذا كان ذلك الضغط سالباً فإنه يقوم بعملية حث للتسارع وبهذا فإن ميكانيزم أو آلية التضخم تجذرت في المباديء الأساسية والجوهرية للنسبية العامة.
ومع ذلك فإن الضغط السالب يبقى حالة فيزيائية شاذة ففي الفيزياء المألوفة غالباً ما يكون الضغط موجباً. وبما أن التضخم حدث بسبب وجود طاقة قصوى توجب وصف المادة بواسطة نظرية الحقول théorie des champs وأبسط أنواع الحقول هو ذلك المسمى بالحقل الرقمي champ Scalaire، كما ذكرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، وهو مرتبط بجسيم ذو لف أو دوران مغزلي ذاتي معدوم spin nul، فطاقة هذا الحقل هي ناتج مجموع طاقته الحركية son énergie cinétique المرتبطة بسرعته ، وكذلك بطاقته الكامنة أو المحتملة son énergie potentielle. ويمكننا أن نثبت بأنه كلما كانت الطاقة الحركية صغيرة، أي عندما تتحرك الحقول ببطء، يغدو ضغط النظام سلبي أو سالباً، لذا فإن الحقل الرقمي champ Scalaire يمكن أن يولد أو ينتج مرحلة تضخمية. وفي الوقت الحاضر تمكن العلماء من اكتشاف حقل رقمي واحد في الطبيعة هو حقل هيغز le champ de Higgs المرتبط ببوزونات هيغز المكتشفة مؤخراً في مسرع ومصادم الجسيمات العملاق التابع لمؤسسة سيرن LHC-Cern بالقرب من جنيف على الحدود الفرنسية السويسرية سنة 2012. ويعتقد أن الحقل المسؤول عن حدوث التضخم هو حقل أنفلاتون inflaton وهو غير حقل هيغز لكنه من نفس النوع أي حقل رقمي كالذي يظهر في حالة توسيع النموذج المعياري في فيزياء الجسيمات، على الأقل على المستوى النظري والرياضياتي، كما لاحظنا ذلك عند دراسة نظرية التناظر أو التماثل الفائق théorie de supersymétrie، أو نظرية الأوتار الفائقة théorie de supercordesاللتان تتنبئان أو تتكهنان بوجود عدد كبير من الحقول الرقمية ولقد وفر لنا تلسكوب بلانك الفضائي معلومات وافرة ومهمة في هذا الصدد وساعد في تقدم وتطور معلومتنا بشأنها.
من النجاحات التي حققتها فرضية التضخم الكوني المفاجيء والفوري الكبير ، إضافة لاعتبارات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، هو شرح وتفسير آلية تشكل وتطور المجرات وكذلك تباينات anisotropies لوحة الأشعة الخلفية الأحفورية الميكروية الكونية المنتشرة التي صورها تلسكوب بلانك الفضائي، وتوفير إمكانية عمل خارطة رقمية مجسمة من خلال المحاكاة لهندسة وهيكيلية وتركيبة الكون المرئي المرصود أو المنظور وأثبت لنا بأنها ليست أكثر من تخلخلات وتقلبات واهتزازات كمومية أو كوانتية fluctuations quantiques للفراغ أو الخواء الكمومي أو الكوانتي الذي نجم فوراً بعد البغ بانغ الانفجار العظيم . وهي فرضية تشرح أغلب المعطيات الرصدية والمشاهدات التي بحوزتنا، ولها تداعيات عميقة على الصعيد النظري لأنها تشكل خطوة أولى على طريق توحيد النسبية الآينشتينية والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، وهما نظريتان متباينتان في الظاهر ويصعب الجمع بينهما، كما إنها تساعدنا على فهم أعمق القوانين الفيزيائية الجوهرية المسيرة للكون المرئي. أغلب تكهنات وتوقعات وتنبؤات نموذج التضخم الكبير محصورة فيما يسمى بطيف القوة spectre de puissance الناجم عن الرصد والمشاهدة. وإن مفتاح التكهن التضخمي هو إن طيف القوة المتولد عن طيف التقلبات و الاهتزازات الكمومية أو الكوانتية للفراغ، يجب أن يكون مختلفاً لكنه قريب جداً من الثابت أو اللامتغير المدروس على نطاق واسع l'invariance d'échelle وقد تم إثبات صحة هذا التوقع أو التنبوء والتكهن الذي سجل نظرياً في سنوات الثمانينات، من خلال نتائج ومعطيات عمليات الرصد التي قام بها تلسكوب بلانك الفضائي وثبت أو أكد أحد أهم نجاحات النموذج التضخمي. من بين التكهنات أو التوقعات والتنبؤات التي قالت بها النماذج التضخمية في الفيزياء المعاصرة وهي ستة، أن الكون المرئي يجب أن يكون من الناحية المكانية مسطحاً أو شبه مسطح ، وإن اهتزازات وتقلبات التضخم يجب أن تمتلك مراحل متجانسة ومتماسكة phases cohérentes، لأنها تمثل تجمعاً لمختلف الموجات وذلك يعني أن القمم والتقعرات لتلك الموجات تتوافق تماماً. التوقع أو التنبؤ الثالث يقول أن التخلخلات والاضطرابات يجب أن تخضع لإحصاءات وحسابات غوسية statistique gaussienne أي وفق القانون الطبيعي. وينطوي على ذلك أن كافة الخصائص القياسية والحسابية للحقل يمكن أن توصف فقط بواسطة معطيات طيف القوة. التنبؤ أو التكهن الرابع يقول ان الاهتزازات يجب أن تكون ثابتة الحرارة adiabatique، بعبارة أخرى، أن مختلف الجسيمات الأولية والأنواع المادية التكوينية كالفوتونات والنيوترونات والمادة الباردة والباريونات، التي تنتج أثناء مرحلة التسخن عندما يتفكك التضخم، يجب أن تتواجد بنفس النسب والكميات في كل مكان في الكون، التكهن أو التنبؤ الخامس يقول أن طيف القوة يجب أن يكون قريب جداً من اللامتغير الواسع، وأخيراً التوقع أو التكهن والتنبؤ السادس أنه يجب أن يتواجد حمام من الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الأولية التي نتجت أثناء التضخم. هناك مئات النماذج التضخمية، والأكثرها تعقيداً يقودنا إلى تعديل بعض تلك التوقعات أو التنبؤات والتكهنات prédications، خاصة الثالث والرابع حيث يتم إدخال بضعة حقول رقمية champs Scalaires تلعب دوراً تعديلياً إبان مرحلة التضخم، على عكس النماذج البسيطة التي لا تتبنى سوى بحقل رقمي واحد فحسب.
فالموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الأصلية الأولية هي ذات طبيعة تختلف عن الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية الناجمة عن اندماج ثقبين أسودين والتي تم اكتشافها مؤخراً ، لكن النوع الأصيل الأولي من موجات الجاذبية لم يرصد أو يشاهد أو يكتشف بعد. ولقد تم تأكيد كافة التوقعات والتكهنات أو التنبؤات بفضل تلسكوب بلانك الفضائي، واتضح أن النموذج الأبسط هو الذي يتوافق مع المعطيات المسجلة بواسطة تلسكوب بلانك. وهذا لا يعني استبعاد النماذج التضخمية المعقدة لكنها ليست ضرورية في الوقت الحاضر لتفسير المعطيات الآستروفيزيائية الفيزيائية - الفلكية والكونية أو الكوسمولوجية.
رغم تطابق المعطيات النظرية مع النتائج الرصدية والمشاهدات العلمية الدقيقة التي قدمها لنا تلسكوب بلاك الفضائي المتطور وتناسبها مع الصيغة البسيطة للنموذج إلا أن هذا لايعني أن باقي النماذج الكوسمولوجية المعقدة غير صالحة فكثير من معطياتها تتوافق وتتطابق مع المشاهدات والرصد العلمي وكل واحد منها متميز بخصائص طاقته الكامنة والمحتملة وكلها توضح لنا كيفية تطور الحقل الرقمي عند مرحلة التضخم الهائل. ولتقريب الصورة بشأن الحقل الرقمي champ Scalaireيمكننا أن نتخيل كرة تتدحرج على طاولة مائلة متعددة التضاريس ذات الأشكال المتعددة وبالتالي نستطيع أن نعتبر الكرة المتدحرجة هي الحقل الرقمي والطاولة المائلة هي الإمكانيات الكامنة والمحتملة لأشكال النماذج التضخمية. الحل النهائي القاطع سوف يتحقق بعد التوصل إلى النظرية الموحدة الجامعة أي النظرية الكوانتية أو الكمومية للثقالة أوالجاذبية théorie quantique de la gravité.
بعد التضخم استمر الكون بالتوسع ولكن إلى أي حد؟ وفي أي حيز مكاني؟ وماهو شكله؟ تُحدد كثافة الكون هندسته أو شكله، وإذا ما كانت كثافة الكون زائدة عن حد يُعرف بـ "الكثافة الحرجة"، فإن شكل الفضاء سيكون منحني بشكلٍ مشابه لكرة عملاقة؛ وإذا كانت كثافة الكون أقل من "الكثافة الحرجة"، سيكون شكل الفضاء منحني بشكلٍ مشابه لسطح السرج، أما إذا كانت كثافة الكون مساوية تماماً للكثافة الحرجة، فسيكون شكل الكون مسطحاً مثلا صفيحة من الورق. يستمر الفلكيون في محاولة الحصول على قياس دقيق لشكل الكون، وتتنبأ أكثر النظريات قبولاً في هذا المجال بأن كثافة الكون قريبة جداً من الكثافة الحرجة وبالتالي يجب أن يكون شكل الكون مسطحاً كصفيحة من الورق. والآن ما هو مصير الكون المرئي أو المنظور الذي نعيش فيه؟ يُخمن علماء الكون المرئي بوجود مصيرين محتملين أمام الكون البارد جداً ويسمى بـ : التجمد الكبير (Big Freeze) أو الانسحاق والإنكماش العظيم (Big Crunch). يتحدد تطور الكون بوساطة التنافس الكائن بين زخم الحركة المتجه نحو الخارج والناتج عن التوسع وبين السحب نحو الداخل والناجم عن الجاذبية. تعتمد قوة الجاذبية على كثافة الكون؛ وإذا كانت كثافة الكون أقل من الكثافة الحرجة، سيتوسع الكون إلى الأبد. أما إذا كانت كثافة الكون أكبر من الكثافة الحرجة، بالتالي ستنتصر الجاذبية في النهاية وسينهار الكون على نفسه.
المقصود بالكثافة الحرجة هنا تحديداً هو الحد الأقصى الذي يستوعبه الزمكان الكوني من المادة والطاقة المكثفة جداً والمضغوطة في حيز محدد فإذا تجاوز الحد الممكن استيعابه تحصل عملية تحدب وانحناء تحول الزمكان الكوني إلى مايشبه الكرة بفعل الجاذبية الهائلة المتولدة من الكثافة وفي حالة تجاوز الكمية القصوى المسماة الكثافة الحرجة سينهار الكون على نفسه مثلما يحصل في بعض النجوم العملاقة التي تنهار على نفسها لأن كثافة المادة والطاقة فيها تجاوزت الحد الحرج ومن انهيارها على نفسها تتولد الثقوب السوداء ذات الجاذبية المهولة التي تبتلع كل شيء ولا تسمح لأي شيء بالنفاذ والخروج منها حتى الضوء لذلك سميت بالسوداء. ومن تصادم وتفاعل ثقبين أسودين تتولد موجات ثقالية أو موجات الجاذبية التي أكتشفت حديثاً جداً كما ذكرنا في القسم الأول من هذه الدراسة. يتبع