: آخر تحديث

دفورجاك.. فتى بوهيميا الذي أبهَر العالم الجديد فأبهَره

223
234
213

في نهايات القرن التاسع عشر، وبَعد أن عَمّت شهرة دفورجاك أرجاء أوروبا على أنه موسيقار التشيـك الأبرز، وصلت أصداء هذه الشهرة الى الولايات المتحدة الامريكية وموسساتها الفنية التي كانت تستقطب كل ما هـو جديد ومتميز من الأفكار والمواهب، وقررت إحداها دَعوته لإحيـاء مجموعة حفلات موسيقية بقيادته ويعزف خلالها بَعضاً مِن مؤلفاته التي أبهرهم سماعها وذيوع صيت مؤلفها، وقد رَحّب دفورجاك بالفكرة وإستجاب لها وقرر السفر الى أمريكا ليكتشف هذا العالم الجديد الذي لطالما سَمِع عنه لكنه لم يراه، ومِن هنا بدأت قصة سمفونيته التاسعة والتي أسماها (العالم الجديد) التي تعَد اليوم واحدة من أروع وأشهر السمفونيات في تأريخ الموسيقى العالمية. ولأن أعمال دفورجاك وحياته لا يمكن إختزالها بمقالة واحدة، لذا إرتأيت أن تكون هذا المقـالة عن جوهَرته الأبرز وقطعته الفنيـة الأغلى وهي سمفـونية العالم الجديد، والتي خطرت له فكرة تأليفها أثناء تواجده هناك مُخلداً بها هذا الزيارة وهذا العالم بعد أن بَهَره واذهَله بكل صوره وتناقضاته وايجابياته وسلبياته.

تبدأ الحَركة الأولى بجُملة هادِئة حَزينة قاتمة نوعاً ما تعزفها الوَتريات ثم الهَوائيات، ربما أراد دفورجاك مِن خِلالها أن يَصِف مَشاعِر الحُزن التي كانت تخالِجه في بداية رحلته بسَبب فراق الأهل والوطن. ولكن فجأة يتفجر اللحن يُرافقه قرع الطبول تمهيداً لدخول لحن الحركة الرئيسي، والذي تؤديه الهوائيات بمرافقة موسيقى مرتعشة من الوتريات، ومن ثم تشارك الأوركسترا بأكمَلها في عزفه، وهو لحن يمتاز بالسُرعة والإندفاع كأنه يُخاطب العالم الجديد قائلِاً "أنا قادم أليك ومبحر بإتجاهك" لأكتشفك وأسبُر أغوارَك وأؤلف عَنك سمفونية سَتتحَدّث عَنها البشرية جيلاً بَعد جيل. ثم فجأة يظهر لحن تشيكي ريفي الطابع يعزفه الفلوت بمصاحبة الوتريات يستمر سريعاً مندفعاً ثم يهدأ فجأة كما بدأ، حيث يعود اللحن الرئيسي ويبدأ بالصعود وصولاً الى نهاية الحركة، ليخبرنا بوصول دفورجاك الى أرض العالم الجديد.

الحركة الثانية وصفها دفورجاك نفسه بالأسطورة، وتبدأ بلحن أداجيو هاديء كان سَبب شُهرة السيمفونية، وبات اليوم أسطوريا بالفعل لذيوع صيته، لحِن فيه الكثير مِن الشَجَن ويُعبر عَن مَشاعر الشوق والحَنين لوطنه بوهيميا، وقد إختار الهوائيات والهورن تحديداً لكونه آلة التشيك الفلكلورية الشهيرة لتبدأ عزفه مع مشاركة لاحِقة للوتريات، ولم يَنسى أن يَستحضر أجواء ريف بوهيميا وطبيعته الخلابة عِبر لحن شعبي فلكلوري تشيكي زيّن به وسَط الحَركة، ليَعود بَعدها لتكرار جملة الحركة الاولى الرئيسية، ربما كي يذكر نفسه بأن لا يَنجَرف كثيراً في مَشاعر الحَنين، ثم ليُنهي الحَركة بلحن الأداجيو سالف الذكر عَن طريق الهوائيات طبعاً، والتي كان لها القدَح المُعَلى في هذه الحَركة.

أما الحَركة الثالثة فتبدأ بتنويعات نغمية شبيهة بالسيمفونية التاسعة لبتهوفن، ولها قصة تحتاج وحدها لمَقالة مُطولة للحَديث عَنها، فقد إستلهم دفورجاك موسيقاها مِن الموسيقى الشعبية الأمريكية، وأرادها معبرة عن أمريكا من خلال موسيقى سكانها الأصليين مِن الهنود الحُمر والمُهاجرين السود الأوائل الذي تم إستقدامهم للعَمل في أمريكا، والذين تأسّسَت أمريكا وبنيَت على أكتافهم. إذ يَقول دفورجاك بأن هذه الموسيقى جَذبته ولفتت إنتباهَه فور وصوله الى أمريكا، وقرر أن يَسبُر أغوارها ويتعَلم عَنها قدر استطاعته، وفعلاً حاول خلال وجوده هناك التواصُل مَع السُكان الأصليين والسود، وزار مَناطقهم وتجَمّعاتهم وحَضَر إحتفالاتهم وإستمَع لموسيقاهم، ثم خرَج مِنها بالحان أعاد صياغتها وتوزيعها أوركسترالياً بجُمل موسيقية جَميلة قام بضمها في هذه الحَركة، أبرزها ذلك المقطع الذي إستلهمه مِن لحن أغنية زنجية هي(ترفقي أيتها العربة). الحركة بشكل عام سَردية، وتعطي إنطباعاً بأجواء مفرحة، كأنها تصف إحتفالات السكان الأصليين من الهنود في غاباتهم، والسود في قراهم، وهم يرقصون ويغنون، وقبل الختام نعود لنستمع الى لحن الحركة الأولى الرئيسي الذي تنتهي به الحركة على غرار سابقاتها.

عام 1893 أراد دفورجاك العودة الى بلاده لتمضية عطلة الصيف مع عائلته، إلا أن ظروف عمله وعدم إكتمال سمفونيته التاسعة، بالإضافة لإصرار أصدقائه وهم أمريكان من أصول تشيكية على بقائه لزيارتهم حيث يعيشون بأحضان الطبيعة الريفية بمنطقة إيوفا ذات الغالبية من ذوي الأصول التشيكية، كلها أمور شجعته على البقاء لزيارة المنطقة والإستمتاع بأجوائها التي ذكرته بالأجواء التي نشأ فيها بالتشيك، ودفعته لإستدعاء عائلته من التشيك الى نيويورك، ثم أستقل معهم القطار الذي تخترق سكته الحديدية مدن أمريكا وحقولها التي أثارت إعجابه وبهرته بطبيعتها وتطورها، وفوجيء عند وصوله بأهالي المنطقة وقد تهيأوا لأستقباله بتجهيز بيانو وأورغن وهورن، وهو ما ألهمه تأليف الحركة الرابعة للسمفونية وإنجازها لترى النور ولتشع بطيف أنغامها ليس فقط على العالم الجديد الذي وصفته وخلدته، حيث عزفت أول مرة في 16 ديسمبر 1893، بل وعلى كل العالم الى يومنا هذا. ففي هذه الحركة سعى دفورجاك لتجسيد إنطباعاته وأحاسيسه التي عاشها خلال رحلته الى هذه المنطقة ورحلته الى أمريكا وعالمها الجديد عموماً واختزالها فيها. هي الأشهر من حركات سمفونياته الأربع، ويبدئها بلحن هادر قوي يسيطر على جميع اجزاءها مفعم بالطاقة والحيوية، ربما أراد أن يعبر من خلاله عن إندفاع القطار الذي جال به مدن أمريكا المختلفة وإطلع على تطورها وعمرانها، تبدأ الوتريات بعزف اللحن بقوة ممهدة دخول أقوى للهوائيات والإيقاع، ثم يختفي اللحن ليحل محله لحن هاديء جميل يعزفه الكلارينيت المنفرد بمصاحبة الوتريات، يتبعه مقطع من ثلاث نغمات متنوعة، ليعيدنا دفورجاك بعدها شيئاً فشيئاً الى لحن البداية، ويتبعه بمقاطع قصيرة من الحركات الثلاث الاولى فيما يشبه الشريط السينمائي القصير، يستذكر فيه محطات رحلته الى العالم الجديد، لكنه هنا موسيقي ويختزل حركات السمفونية الأربع بلحظات، ولينهي الحركة والسمفونية بلحن حماسي إنتصاري يليق بقصتها وببنائها الموسيقي الدرامي. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في