: آخر تحديث

سوريا الجديدة وعقد المواطنة

2
2
2

منذ سقوط النظام القديم ودخول سوريا مرحلة انتقالية، يعيش السوريون إحدى أعقد تجارب التحوّل في المنطقة؛ فإرث الاستبداد والحرب لم يخلّف فقط بلداً مثخناً بالجراح، بل أورث المجتمع شبكة كثيفة من الشروخ الطائفية والعرقية والسياسية، تجعل مهمة أي نظام بديل أقرب إلى السير في حقل ألغام، والسؤال اليوم: هل ينجح النظام الجديد في إقناع السوريين، كلِّ السوريين، بأنه حامل مشروع دولة عادلة؟

في العام الأول بعد التغيير، يمكن رصد بعض الصعوبات. في الساحل، عرف بعض القرى والأحياء حوادث واشتباكات متفرقة تركت انطباعاً لدى الطائفة العلوية بأنها تدفع ثمن اقترانها التاريخي بالنظام السابق، رغم محاولات الحكومة الجديدة إرسال رسائل طمأنة بأنهم مكوّن أصيل في سوريا الجديدة، وأن المحاسبة ستطول فقط الأفراد المتورطين في الجرائم لا الجماعة بأكملها، لكن شبكات النظام القديم في الداخل والخارج ومساعي بعض رموزه تسعى إلى إعادة توظيف أحداث الساحل ورقةَ ضغط أو مشروعَ كيانٍ منفصل.

في الجنوب، تحوّل حراك السويداء من احتجاجات مطلبية ضد تردّي الأوضاع الاقتصادية إلى حركة سياسية رفعت شعارات إسقاط الاستبداد أولاً، ثم دخلت لاحقاً في مواجهات مسلّحة... فقد شهدت المحافظة مواجهات دامية واقتحاماً لمقارّ رسمية، قبل أن تفرض القوى المحلية نوعاً من الإدارة الذاتية الواقعية وتدخل في مفاوضات شاقة مع دمشق بشأن موقع الدروز في المعادلة السورية المقبلة.

أما الملف الكردي - وهو من أعقد عُقد سوريا - فقد دخل مرحلة جديدة مع المفاوضات بين حكومة دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» بشأن دمج القوات الكردية، ومعها مؤسسات «الإدارة الذاتية»، في البنية الرسمية للدولة مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم. ورغم أن ما أُنجز حتى الآن يمثّل خطوةً مهمّة نحو تسوية تاريخية، فإن مفاوضات التفاصيل مازالت عالقة فدمشق تتحفّظ على الفيدرالية وعلى مصطلح «اللامركزية السياسية»، فيما تصرّ «قسد» على إدارة لا مركزية واسعة وضمانات دستورية للهوية والحقوق الكردية، وسط ضغوط تركية وأميركية متعاكسة، لذلك تبدو علاقة دمشق - القامشلي اليوم خليطاً من التنسيق العسكري والشدّ السياسي، لا شراكة واضحة المعالم بعد.

في خلفية هذا المشهد الداخلي، برز الدور السعودي، خصوصاً بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بوصفه عاملاً كابحاً للانهيار ودافعاً نحو «سوريا جديدة» لا تعود إلى أحضان الفوضى أو المحاور الراديكالية، فالرياض قادت عمليّة إنهاء العزلة العربية عن دمشق، ورعت إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، ثم تحوّلت إلى منصّة لقاءات بين القيادة السورية الجديدة والقوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومع هذا المسار، بدأ يتغيّر تدريجياً توصيف النظام الجديد وبعض فصائل المعارضة التي شكّلت عموده الفقري؛ إذ جرى دمج كثير من تشكيلاتها في مؤسسات الدولة، وتخلّت عن خطابها السابق؛ مما أفسح المجال لرفع عدد من تصنيفات الإرهاب وتخفيف العقوبات الاقتصادية، تمهيداً لاندماج سوريا في الاقتصادَين العربي والدولي، مقابل التزام واضح بمحاربة التنظيمات المتطرفة ووقف تجارة السلاح والفوضى.

لذا فإن سوريا الجديدة لن تُبنى على الإقصاء أو الانتقام أو عسكرة السياسة. تجربة العراق بعد 2003 ماثلة أمام الجميع: الانغماس في المحاصصة الطائفية، والاستثمار السياسي في المظلوميّات، أطالا أمد الفوضى، وأضعفا ثقة الناس بالدولة. لكن التجربة ذاتها أفرزت، رغم تكلفتها الباهظة، دستوراً يعترف بالتنوّع، وتعدديّة سياسية نسبية، ومساحة أوسع لحرية الرأي والتعبير. المشكلة لم تكن في الاعتراف بالتعدّد، بل في تحويله إلى حصص جامدة وأدوات صراع، بدل أن يكون إطاراً لعقد مواطنة متوازن.

الدرس الأهم من العراق أن الانتقال من الشمولية إلى التعددية لا يتحقق بخطاب «الغالب والمغلوب»، بل بإعادة تأسيس العقد الاجتماعي على قاعدة العدالة والمواطنة المتساوية. سوريا الجديدة لا تستطيع تكرار أخطاء التهميش والاستئثار، بل تحتاج إلى الاعتراف بالخصوصيات الدينية والقومية والمناطقية - لكل المكونات - من دون أن يتحوّل إلى بازار محاصصة أو مقدمات لتقسيم مقنّع، وهذا يقتضي حسم العلاقة بكل أبناء المكونات بوصفهم مواطنين شركاء، مع محاسبة صارمة فردية، لكل من تورّط في الجرائم أياً تكن طائفته. وكذلك التعامل مع حراك السويداء بوصفه «طلباً على المواطنة»، وليس تمرّداً طائفياً، عبر صيغ لا مركزية إدارية وأمنية تضمن شراكة في إدارة المناطق ضمن الدولة لا خارجها. كما أنه لا بد من استكمال مسار التفاهم مع «قسد» إلى اتفاقٍ ملزِم يضمن دمج «القوات» والإدارات في مؤسسات الدولة، مع اعتراف دستوري صريح بالحقوق القومية والثقافية لهم وإطار واضح للامركزية.

إن بناء سوريا الجديدة يتطلب حواراً وطنياً شاملاً يعترف بجرائم الماضي من دون تحويلها وقوداً لثأر جديد، وإصلاحاً دستورياً يكرّس التعددية السياسية واللامركزية، مع منظومة عدالة انتقالية تمنع الإفلات من العقاب وتفتح في الوقت نفسه باب المصالحة الواقعية لا المتخيَّلة. والرهان الحقيقي يكمن في قدرة السلطة على فرض هيبتها، ولكن بإقناع السوريين جميعاً - دون استثناء - بأنها تتجاوز الحزب والطائفة والسلاح، وترسو في الوقت ذاته على ركيزة عربية وإقليمية متينة تقودها الرياض، بما يفتح الطريق نحو دولة آمنة حرّة، يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، وتنتهي فيها الحاجة إلى الاحتماء بالطوائف لمصلحة الاحتماء بعقد المواطنة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد