: آخر تحديث

حصيلة عامين من الحرب في صورة

4
3
3

سليمان جودة

تبقى الصورة قادرة على أن تقول ما لا يقوله الكلام، ويمكن للصور أن تنطق بما لا يستطيع أن ينطق به كل كلام في الموضوع.. من ذلك صورة منشورة لفلسطينيين صغار جلسوا يتلقون تعليمهم في مخيم النصيرات في قطاع غزة، وهي صورة يمكن أن نجد فيها تلخيصاً بليغاً، ومؤلماً في الوقت نفسه لحصيلة عامين من الحرب الإسرائيلية على القطاع.

وإذا كنت قد قلت إن الصغار الفلسطينيين جلسوا يتلقون تعليمهم في المخيم، فعلينا أن ننتبه إلى التعليم في مخيم كالنصيرات أو في سواه من المخيمات، ليس كالتعليم الذي يعرفه الصغار في أي مكان، ومهما كان هذا المكان محدود المستوى في الإمكانات.

الفلسطينيون الصغار كانوا قد جلسوا على الأرض، أي لا مقعد، ولا مكتب، ولا مدرسة بالمعنى المتعارف عليه لهذا كله، وإذا شئنا الدقة في وصف ما تقوله الصورة المنشورة قلنا إنهم كانوا قد افترشوا الأرض، وكان كل واحد منهم قد وضع كراسته على إحدى ركبتيه، وكان يحاول في هذه الوضعية أن يستوعب شيئاً من الدرس الذي كان عليه أن يسمعه من المدرس أمامه، وكان بعضهم يتطلع أمامه كمن يتطلع إلى مجهول لا يرى له ملامح ولا معالم.

هذا الوصف من جانبي للصورة وما تقوله، هو بالتأكيد تبسيط لما يمكن أن نجده من المعاني الكثيرة في الصورة نفسها، لأننا اتفقنا منذ بداية هذه السطور، على أن الكلام لا يقوى في الكثير من الأحيان على أن ينقل ما تقوله الصور. والمعنى أن هذه صورة بعامين كاملين، أو هي صورة توجز الحصيلة التي نتجت عن العامين الكاملين، أو هي صورة تقول ما كان الشاعر القديم يردده ويقول: وما الحرب إلا ما قد عرفتم وذقتم.

وإذا جاز أن تكون هذه الصورة مهداة لجهة من الجهات في أرض فلسطين، فهذه الجهة هي حركة حماس في أرض القطاع دون سواها.. هي مهداة إليها لترى حصيلة الحرب التي بدأتها بطوفان الأقصى وما تلاه إلى أن توقفت الحرب، ومعلوم أن الحرب لم تتوقف إلا بعد أن أحالت القطاع بطوله وعرضه إلى كومة هائلة من الركام.

إنني أفهم وأتفهم ما يقال عن أن طوفان الأقصى كان نوعاً من الرد على سلوك إسرائيل، وأفهم أن المقاومة في الحالة الفلسطينية ليس من الضروري أن تتجسد في حماس. أفهم هذا كله وأتفهمه، ولكني في المقابل أدعو الحركة إلى أن تكون جادة في التزامها بأن تبتعد عن الحكم في غزة، وأن تترك الحكم لأهل الحكم من الفلسطينيين، لأن تجربة حرب العامين أثبتت أنها كحركة ليست أهلاً للحكم، وأن وجودها في السلطة في غزة كان وبالاً على الفلسطينيين هناك.

وليست الصورة المشار إليها سوى دليل واحد على ذلك، فإذا ما شئنا دليلاً مضافاً فلسنا مدعوين إلى شيء، إلا أن نتطلع إلى صورة أخرى من الصور التي يجري التقاطها جوياً للقطاع أو لجانب منه، وعندها سيبدو المشهد وكأننا أمام مساحة من الأرض ضربت بالسلاح النووي.

وكان طبيب أمريكي قد زار غزة في يناير الماضي عندما قامت هدنة بين الطرفين، وكان قد عاد ينشر شهادته على ما رآه بعينيه، وكانت شهادته تقول إن ما بدا أمامه لا يختلف عما بدا في هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بعد ضربهما بالقنبلة الذرية في 1945.

حين نضع صورة التلاميذ الصغار إلى جانب الصورة التي ترسمها شهادة الطبيب الأمريكي، يصبح على حركة حماس أن ترى فيهما ما جنته هي على أهل القطاع، ويصبح عليها أن تأخذ ألف خطوة للوراء، وأن تترك الحكم لأهل الحكم، وأن تدعو السلطة الفلسطينية في رام الله لأن تتولى أمر الغزاويين، وأن تعود الضفة وغزة أرضاً فلسطينية واحدة لا أرضين تحت حكمين، لأن هذا هو ما سيقطع الطريق على أي انقسام فلسطيني لا تستفيد منه إلا إسرائيل.

إن أي متابع لسلوك حماس منذ توقيع اتفاق وقف الحرب في شرم الشيخ سوف لا تخطئ عينه أن الحركة تحاول البقاء في الحكم تحت مسميات مختلفة، ولكنها وهي تحاول ذلك تعرف أن ما تحاوله لن ينطلي على الإسرائيليين والأمريكيين، والأهم أنه لن يفيد قطاع غزة في شيء، بل سيلحق به الضرر أكثر، ولن يفيد الغزاويين في شيء، وإنما سيجلب عليهم من الأذى أكثر مما رأوا وعاشوا وعانوا طوال العامين.

باختصار، فإن على الحمساويين في قيادة الحركة أن يقدموا العام في فلسطين على الخاص بالنسبة لهم، وأن يفهموا أن الشيء المجرب لا يحتاج إلى تجريبه من جديد لنتبين حجم الخطأ فيه، وأن فلسطين كأرض، وكقضية وكشعب، لا بديل عن أن تعلو على كل الفصائل، وأن ما يحقق صالح الوطن لا بد أن يتقدم ما عداه في حياة كل حمساوي، وبالضرورة في حياة كل فلسطيني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد