«ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين»...
هذه العبارة قالَها حسنُ البنا في خطابٍ مفتوحٍ موجَّهٍ إلى وزارة الداخلية وإلى أعضاء جماعته، جماعة الإخوان المسلمين، وكانَ يقصدُ بها «النظام الخاص»، بعد محاولتهم الفاشلة نسفَ محكمةِ الاستئناف، في 13 يناير (كانون الثاني) 1949، لتدمير ملفّ تحقيق قضيةِ سيارة الجيب. وهذا الخطابُ كانَ خطوةً ضمن خطواتٍ عدة اتخذها البنا للتنصّل من مسؤوليتِه بأمر «النظام الخاص» التخلّصَ من النقراشي باغتيالِه ولإنقاذ أفرادٍ من جماعته وأفرادٍ من «نظامها الخاص» من السّجن.
هذا الخطاب المفتوح الذي كتبه حسن البنا، وقبله مباشرةً تنديدُه باغتيال النقراشي، كان لهما الفضل بأن يقدّم قاتل النقراشي، عبد المجيد أحمد حسن، اعترافاتِه الكاملة، بعد أن تمنّع كثيراً في تقديمها.
بعد انهيار مفاوضات حسن البنا مع الحكومة، يقول ريتشارد ميتشل: «وفي هذه الأثناء كتب البنا رسالة (القول الفصل) بعد أن يَئِس من تسوية الأمر مع الحكومة، ووُزعت الرسالة في الخفاء، وقد أوردت وجهة نظر (الإخوان) فيما حدث لهم إبان تلك الفترة، والواقع أن البنا أنكر جميع التهم التي وُجهت للجمعية في قرار الحل الأول وردها إلى ظروفها، مبيناً أنها جميعاً مفتريات مختلفة أو حوادث محرَّفة».
أي أن البنا في هذه الرسالة مسح كل ما قاله في مفاوضاته مع الحكومة بـ«أستيكا»، كما يعبر إخواننا المصريون.
أستكمل الآن تعليقي على تشنيع الغزالي في مقدمة كتابه «من هنا نعلم» على مقال أحمد محمد شاكر «الإيمان قيّد الفتك» الذي أدان فيه مقتل النقراشي، فأقول إنَّ إدانته لهذا الفعل لا تختلف كثيراً عن إدانة حسن البنا له، وهو على الأقل لم يقل عن قادة «النظام الخاص» وأفراده؛ بأنَّهم ليسوا بإخوان وليسوا بمسلمين.
ربما أنَّ الغزالي استند إلى رسالة «القول الفصل» التي مسحَ البنا فيها أقوالَه السابقة بـ«أستيكا»!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا بعد سنوات من فصله من جماعة الإخوان المسلمين، وتحديداً في عام 1963، استشهد بعبارة البنا: «ليسوا بإخوان وليسوا بمسلمين» الممسوحة بـ«أستيكا»؟!
إنَّ أحمد محمد شاكر بمقاله المنشور في 2/ 1/ 1949 لم يرتكب خطأ سوى خطأ واحد.
هذا الخطأ هو قوله في خاتمة مقاله: «وإنما الاثم والخزي على هؤلاء الخوارج القتلة مستحلّي الدماء، وعلى مَن يدافع عنهم، ويريد أن تتردَّى بلادنا في الهوة التي تردت فيها أوروبة؛ بإباحة القتل السياسي، أو تخفيف عقوبته، فإنَّهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون»!
أوروبا التي يعنيها في خاتمة مقاله، هي أوروبا الحكومات والتشريعات، وتحديداً الدول المتقدمة في غربها. وأوروبا عامة في ذلك التاريخ وإلى الآن لم تبح الاغتيال السياسي، ولم تنادِ بتخفيف عقوبته لا في بلدانها ولا في بلدان غيرها.
أعيد القول مرة أخرى؛ بأنَّ أحمد محمد شاكر لم يصدر «فتوى»، كما ادعى الغزالي، بل كتب مقالاً، وقد عرضنا للقارئ معظم ما جاء فيه؛ فهو ليس مخوّلاً بإصدار الفتاوى. فالجهة المخوّلة بهذا، هي هيئة كبار العلماء في جامع الأزهر. وقد أصدرت هذه الهيئة «فتوى» وصفت فيها مقتل النقراشي بأنَّه عمل ضد الإسلام؛ فلماذا لم يحرّض الغزالي على أصحاب هذه الفتوى، وهم كبار العلماء في الأزهر، كما فعل مع أحمد محمد شاكر، أو على الأقل يتناول فتواهم بنقد ديني رزين؟!
مر بنا في مقال سابق اتهام الغزالي في كتابه «من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي»، الصادر عام 1963، انضمام حسن الهضيبي وسيد قطب لجماعة الإخوان المسلمين بأنه كان بإيعاز من الحركة الماسونية العالمية لغرض تآمري!
تفصيل هذه الاتهام في كتابه المشار إليه، هو قوله عن حسن الهضيبي:
«استقدمت الجماعة رجلاً غريباً عنها ليتولى قيادتها. وأكاد أقول بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية أرادت تدويخ النشاط الإسلامي الوليد فتسللت من خلال الثغرات المفتوحة في كيان جماعة هذا حالها، وصنعت ما صنعت. ولقد سمعنا كلاماً كثيراً عن انتساب عدد من الماسون، بينهم الأستاذ حسن الهضيبي نفسه لجماعة الإخوان، ولكني لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخنق جماعة كبيرة على النحو الذي فعلته، وربما كشف المستقبل أسرار هذه المأساة»!
وقوله عن سيد قطب بأنه «منحرف عن طريقة حسن البنا، وأنه بعد مقتل حسن البنا وضعت الماسونية زعماء لحزب الإخوان المسلمين، وقالت لهم: ادخلوا فيهم لتفسدوهم».
ومع أن الغزالي ساق هذا الاتهام لكليهما من دون بيّنة أو برهان، فإن هذا الاتهام كثيراً ما يستشهد به عند نقاد الإخوان المسلمين من الصحافيين والباحثين، على سبيل التسليم المطلق به! والأحرى بهذا الاتهام أن يعرض للمناقشة والفحص والتدقيق.
هذا الاتهام يتضمَّن ثلاثة مستويات، هي:
أنهما ماسونيان، وأنهما انضما إلى الإخوان المسلمين لغرض ماسوني هدّام، وأن جماعة الإخوان المسلمين مختَرَقة من قبل الماسونية العالمية!
لنبدأ من المستوى الأول في هذا الاتهام، ولنبدأ من ادعائه بأن حسن الهضيبي كان ماسونياً.
الغزالي يقول: «سمعنا». (نا الفاعل) في فعل الماضي هذا، المقصود بها مَن؟ هل هي جماعة أو مجموعة في حركة الإخوان المسلمين أم هي جماعة أو مجموعة في المجتمع المصري من خارج هذه الحركة؟
من لغة خطابها، كما صاغه الغزالي، أنها مجموعة في جماعة الإخوان المسلمين، فلغتها هي لغة انتماء إليها؛ فهي تتأسف على حرف جماعة الإخوان المسلمين عن مسارها الإسلامي الأصلي، بسبب تسلل «هيئات كافرة» إليها، وهي الهيئات أو المحافل الماسونية.
لم يحدد الغزالي متى «سمعوا» بهذا: هل «سمعوا» به مع تعيين الهضيبي مرشداً لجماعة المسلمين أم مع الاعتراضات التي أثيرت على قرار تعيينه؟
عندما تقلب في الطعون التي ساقها صالح العشماوي ومحمد الغزالي - وهي طعون كتباها في مجلة «الدعوة» ومروية في شهادات شفاهية - في أهلية أن يكون الهضيبي مرشداً لجماعة الإخوان المسلمين، لا تجد من بينها اتهامه بأنه ماسوني. هل لأن هذا الاتهام كان غير ذي بال في مطلع الخمسينات الميلادية؟ والدليل على أن الانتماء للماسونية غير ذي بال أو غير قادح بالسمعة، أنه قبل الإعلان (رسمياً) عن تعيين حسن الهضيبي مرشداً لجماعة الإخوان المسلمين، بتاريخ 30 أكتوبر (تشرين الأول) 1951، كان «المحفل الأكبر الوطني المصري»، في عام 1950، منح وزير الداخلية وسكرتير حزب الوفد فؤاد سراج الدين درجة «أستاذ أعظم» في هذا المحفل.
الانتماء للماسونية في تلك الفترة الزمنية، وهي مطلع الخمسينات الميلادية، كان لا يزال أمراً معلناً. وقد انتمت إلى الماسونية طيلة المنتصف الأول من القرن الماضي، وقبله في مصر، شخصيات أميرية وسياسية ودينية وأدبية وفنية، سواء أكان هذا الانتماء انتماءً عملياً أو انتماءً شرفياً. فما الذي يدعو الهضيبي إلى إخفاء انتمائه للماسونية، أو يدفع جمعية من الجمعيات الماسونية التي انتمى إليها، للتستر على انتمائه لها؟!
بمعزل عن النظر إلى الماسونية بوصفها حركة تآمرية هدّامة، وبأنها يهودية وصهيونية وإلحادية؛ فهي تقوم على فكر متحرّر، فأين مظهر الفكر الإسلامي المتحرر حتى في حدّه الأدنى في أقواله وفي تصريحاته وفي مطالبه وفي ممارسته السياسية قبل اعتقال مجموعات كبيرة من الإخوان المسلمين عام 1954. بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر؟!
ففكره الإسلامي فكر ديني تقليدي يجنح إلى التزمت الديني. والهضيبي في هذا الأمر ليس وحده، فالجماعة في طورها الدعوي وفي طورها السياسي في عهد مرشدها الأول، حسن البنا، وفي عهود متعددة من عهود خلفائه، كانت قضية «التزمت الديني» من أدوات العمل السياسي والعمل الفكري لديها.
إنه لو كان صحيحاً أن الماسونية جلبت الهضيبي وزعماء جدداً لجماعة الإخوان المسلمين، فسيعمل هؤلاء بجهد وجهاد على الحد من تعصب الجماعة الديني، لأن من مقتضيات الماسونية التسامح الديني، والأفق الفكري المفتوح.
إن فكرة اتهام الغزالي للهضيبي ولسيد قطب ولآخرين من الإخوان المسلمين لم يسمّهم (سأسميهم في المقال القادم) بالماسونية، فكرة نشأت بعد سنوات من الوقت الذي خاض كان فيه هو وصالح عشماوي وآخرون بمعركة كبرى لإجبار الهضيبي على التنحي عن منصب المرشد العام لـ«الإخوان المسلمين».
كتاب الغزالي الذي زجّ به هذا الاتهام لهؤلاء صدر عام 1963. أي أن صدوره سبق بمدة صدور قرار حكمت أبو زيد وزيرة الشؤون الاجتماعية بحل الجمعيات الماسونية، الذي صدر في 18 أبريل (نيسان) 1964؛ فلا علاقة لتهمته المتأخرة لهم بالماسونية بصدور هذا القرار، ولا بما كتب بعد صدور هذا القرار من ربط الماسونية بالصهيونية. لا نعرف عن الماسونية في ادعاء الغزالي الاتهامي سوى أنها «كافرة» ومتآمرة على «الإخوان المسلمين»، وأنها هي المسؤولة عن التصدع والانقسام والنزاع الذي حصل للجماعة ابتداءً من عام 1951. بزرعها «ماسونييها» داخل الجماعة لإفسادها من الداخل.
في ظني أن فكرة الاتهام بالماسونية للهضيبي ولقطب ولآخرين أغفل ذكر أسمائهم نشأت عند الغزالي بعد قراءته لكتاب «الماسونية منشئة ملك إسرائيل» لمحمد علي الزعبي، الصادر في طبعته الأولى ببيروت عام 1956 عن «مكتبة العرفان». وهذا الكتاب هو أول كتاب إسلامي يتحدث عن الماسونية بوصفها كياناً تآمرياً يبطن الهدم والشر. المؤلف سوري حوراني، لبناني الجنسية درّس في لبنان. ويعرّف بأنه داعية إسلامي لكن إسلاميته ـ كما تُظهر بعض مؤلفاته ـ مختلفة بعض الشيء عن الاتجاه السائد عند الإسلاميين في بعض القضايا، مثل انفتاحه على المسيحيين وعلى الدروز.
له كتاب أشمل عن الماسونية، ذو عنوان أدبي جذاب، صدر في طبعته الأولى ببيروت عام 1972 عن «دار الجيل». هذا الكتاب هو كتاب «الماسونية في العراء».
هذا الكتاب هو كتاب مشهور عند الإسلاميين، ومؤثر بمضمونه وبعنوانه على عقولهم وعلى وجدانهم. ولا أدل على تأثير عنوانه عليهم من هذا الشاهد:
إبان استيلاء العراق على الكويت، عام 1990، حصلت معركة بين غازي القصيبي والصحويين الإسلاميين في السعودية، وتوزعت مواد هذه المعركة لدى الطرف الأخير ما بين خطب ومحاضرات وكتب. ومن هذه الكتب كتاب للطبيب وليد الطويرقي عنوانه «العلمانية في العراء: القصيبي شاعر الأمس وواعظ اليوم»، صدر عام 1991. العنوان الأساسي لهذا الكتاب مستعار من عنوان كتاب الزعبي «الماسونية في العراء»، مع أنه ليس ثمة وجه شبه بين الماسونية والعلمانية، مما يجعل الاستعارة فارغة من أي معنى. فالعلمانية ليس فيها (كما الماسونية) غموض وإلغاز وأسرار وطقوس ومراسيم وإشارات ودرجات، بل هي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار عند الباحثين فيها والدارسين لها، ومن هؤلاء الباحثون والدارسون الإسلاميون. يا لسخف هذه الاستعارة. وللحديث بقية.