: آخر تحديث

السياسة السعودية بعد عامين على «طوفان الأقصى»

3
3
3

عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما تبعَها من حربِ إبادة إسرائيلية استمرت عامين متتاليين، شكَّلت مرحلةً مفصليةً للسياسة والأمن في الشرق الأوسط، ما استدعى بناء منهجياتٍ جديدة أكثر فاعلية ومرونة وقوة، لكي تستطيعَ التعامل مع العنجهية الإسرائيلية من جهة، والتصدع الإيراني من جهة أخرى، دون إغفال الهشاشة الفلسطينية - الإنسانية، وهذه المتغيرات شكّلت عوامل ضغط على مختلف الدول العربية الفاعلة في الإقليم.

السعودية بما تمثله من مكانة إسلامية وتأريخ مرتبط بـ«القضية الفلسطينية» منذ أيام المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وجدت نفسها أمام مسؤولية لا يمكنها إلا النهوض بها. ذلك قدرُ الدولِ الوازنة؛ فسياسة الانكفاء والتفرج على مسرح الأحداث ليست بالأمر الوارد لدى القيادة في الرياض.

من هنا، السياسة الخارجية السعودية راقبتِ المتغيرات بدقة عالية، ولم تتفاعل معها من منطلق رود الفعل؛ لأنَّ السياسات لا تبنى على العواطف والانفعالات السريعة، خصوصاً أن هنالك هيجاناً إسرائيلياً مصحوباً برؤية دينية متطرفة وشعور بفائض القوة. لذا، عملت الرياض على الدفع باتجاه خلق شبكة أمانٍ إقليمية بهدوء وروية ووضوح في آن معاً، وهذه الشبكة دفعت دولاً مؤثرة للاشتراك فيها مثل فرنسا، ما أسفر عن تشكيل رأي عام دولي عَبّر عن نفسه علانية في «مؤتمر نيويورك» أقر «حل الدولتين»، وهي بذلك مهدت الطريق أمام مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب في غزة. أي أن ما حصل لم يكن نتيجة قرار اتخذ بين عشية وضحاها في «البيت الأبيض»، وإنما تراكم لسياسات تعاونت فيها السعودية مع الدول العربية والإسلامية والأوروبية المؤثرة، مبرزة المأساة الفلسطينية فيما وصلت له من حالٍ لا يمكن للمجتمع الدولي الصمت أمامها، لتقتنص «اللحظة المناسبة» كي تكسر السردية الإسرائيلية القائمة على ادعاء المظلومية المضخمة، وتبرز أمامها السردية الفلسطينية التي يشهدها العالم علانية، ولتقدم بذلك المملكة مع شركائها «حل الدولتين» باعتباره طريقاً موثوقاً للسلام يحقق الأمن للجميع في الشرق الأوسط.

إنَّ السلام لا يُبنى بـ«التسامح» مع الاحتلال وممارسته، بل بربطه بخطوات ملموسة لحل جذر المشكلة، وبإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وتالياً يتم «الغفران» لكي يدفن الجميع أحقادهم وموتاهم بسلام، ويبدأ عصرٌ جديد أقل توتراً وأكثر إنسانية وتعاوناً، يكون فيه التنافس بالطرق المشروعة والمعتادة دولياً.

الإعلانُ الأهم المرسخُ لهذه السياسة جاء من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في خطاب «مجلس الشورى» سبتمبر (أيلول) 2024، حين قال إنَّ «المملكة لن تتوقف عن عملها الدؤوب، في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية»، مشدداً على أن «المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك». هذا المبدأ شكّل معياراً ثابتاً في السياسات الخارجية للرياض، حيث لم يعد التطبيع خياراً منفصلاً قابلاً للمساومة تطرحه إسرائيل متى تشاء، بل أصبح رهيناً بنتائج على الأرض وخطوات عملانية على تل أبيب القيام بها تجاه الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة!

المواقف السياسية - القانونية، واكبها تحرك إغاثي سعودي طيلة عامين، حيث أظهرت الأرقام الرسمية حجم الجهد الذي تبذله المملكة. فوفق البيانات المنشورة، فإنه وحتى تاريخ 30 يوليو (تموز) الماضي تم إرسال 58 طائرة و8 سفن تحمل 7188 طناً من المساعدات إلى قطاع غزة، رغم السياسات الإسرائيلية الممنهجة التي تمنع وصول المساعدات الإغاثية، وتستخدم التجويع سلاحاً قاسياً في وجه الغزيين!

الخطابُ السعودي الرافض للسياسات الإسرائيلية حذّر أيضاً من توسع المستوطنات في الضفة الغربية، واقتحام المتدينين المتطرفين المتكرر لباحة «المسجد الأقصى». وأدان بعبارات قاسية الضربات الإسرائيلية على إيران وقطر، وكرر رفضه للانتهاكات المستمرة للأراضي السورية واللبنانية؛ لأنَّ السلام في الشرق الأوسط، بنظر الرياض، كلٌ لا يتجزأ، وعليه فإنَّ استمرار الاضطرابات في مكان ما، سيؤثر بشكل تلقائي ويزيد مستوى العنف في المناطق الأخرى!

بالتأكيد، هذه السياسات الداعمة للسلام، لا يمكنها أن تحقق أهدافَها منفردة؛ فالسعودية لا تمتلك عصاً سحرية تغير بها الحقائق الصعبة، وهي بذلك تحتاج إلى تعاون مختلف الدول المؤمنة صدقاً بالسلام معها، لتضع خططاً قابلة للتطبيق، تدفع إسرائيل لتنفيذ التزاماتها بالكامل، وتحقيق ما جاء في مقترح الرئيس دونالد ترمب، وليس مجرد الاكتفاء بتطبيق «المرحلة الأولى» ومن بعده الانقلاب مجدداً حين تتسلم الرهائن المختطفين لدى «حماس» الأحياء منهم والأموات. لأن أي تراجع عن مسار التهدئة، قد يقود لدخول أطراف خارجية في الصراع، وبالتالي تعريض أمن الشرق الأوسط بأكمله للخطر.

أمام الرياض في القادم من أيام الكثير من الجهد الدبلوماسي، وهذا يتطلَّب خطوات عملانية عدة، أولها توسيع وتوثيق الشراكات مع مزيد من الدول الفعالة لدعم خطوات الدولة الفلسطينية ضد الحصار الدولي. تترافق مع استخدام المحافل الدولية القانونية بشكل منهجي لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية وتجريدها من شرعيتها المدعاة، والتأكيد على أهمية محاسبتها لارتكابها «جرائم ضد الإنسانية» أثناء حرب غزة. مع ضرورة بناء خطة أمنية استباقية متوازنة وتستجيب للمتغيرات، تجعل منطقة الخليج العربي أكثر حصانة ضد تكرار إسرائيل اعتداءاتها، كما حصل في الهجوم الذي استهدف العاصمة القطرية الدوحة.

السياسة السعودية اليوم في أوج حيويتها ونشاطها، وأظهرت قدرة عالية على تحويل المواقف المعلنة إلى معادلات لا يمكن تجاهلها، إلا أنَّ التحديات كبيرة، والمسؤولية لا تقع على المملكة وحدها، بل على الفاعلين الدوليين كافة ودون استثناء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد