عبدالرحمن الحبيب
في عام 1991م نشر عالم الاجتماع الفرنسي برونو لاتور مقالاً بعنوان «لم نكن حداثيين قط»، في أعقاب ما أسماه «عام 1989م الإعجازي»، وتحديداً سقوط جدار برلين، مقترحاً التخلي تماماً عن فكرة كوننا «حداثيين» أو كنا أصلاً «حداثيين» في يوم من الأيام، متخلياً بذلك عن كل الأوهام التقدمية المتمثلة في العقلانية والتصنيع والقانون التي قادت النخب الغربية منذ القرن التاسع عشر؛ ويقترح أنه في هذا العالم غير الحديث الذي ندخله دون أن نغادره فعلاً، علينا إيجاد طرق جديدة (أو ربما قديمة) لتخيل مكاننا في الزمن وإقرار مشاريعنا الجماعية.
هذا ما نقله كريستوفر كلارك، بروفيسور التاريخ في جامعة كامبريدج، في مقالة أكاديمية طويلة موضحاً أنه سواء اتفق المرء مع لاتور أم لا، فإن أفكاره كانت أعراضًا لشعور واسع الانتشار بأن الحاضر في طور الانتقال من خيالات الحداثة الموجه نحو المستقبل إلى شيء أكثر تكرارًا، مُعاقباً بانهيار المشاريع البشرية الماضية ومُذعنًا لأصوات كبار السن المفترضين، يقول: «عندما قرأت المقال لأول مرة، كنت متشككًا، لكن على مر السنين، ظلت أفكاري تعود إليه، لأننا يبدو أننا بالفعل في نهاية ما كنا نسميه ذات يوم الحداثة».
المقالة بعنوان «نهاية الحداثة» في مجلة فورين بوليسي، حيث يوضح كلارك أنه مع انتهاء الحرب الباردة بدأ التغير وظهور شيء مختلف ما زلنا نعمل على تحديده، فلقد بدأ العصر الذي نعيش فيه الآن بداية جميلة، ويجب ألا ننسى ذلك، ففي عامي 1989 و1990، أدى تفكك الكتلة الشرقية إلى تحول عميق في الهيكل الجيوسياسي لأوروبا؛ وكان هناك شعورٌ بأن المرء قد بلغ ذروة تطور تاريخي طويل، يقف على أرض الحداثة الشامخة، وعصر ما بعد الحرب الباردة، لكنه لم يدم طويلاً؛ إذ تتالت الكوارث والصدامات حول العالم وأبرزها حالة الغرب مع روسيا ومع الصين.
فماذا تلا ذلك في عصر ما بعد الحرب الباردة؟ اقترح الكاتب المشهور توماس فريدمان، في عمود بصحيفة نيويورك تايمز، المصطلح المُربك «ما بعد ما بعد الحرب الباردة»، إلا أن الصين اقترحت عبارة أوضح واصفة العصر الحالي بعنوان عصر «الفرصة الإستراتيجية»، بينما يقول كلارك الأسماء لا تُهم، فما يُميز العصر الحالي هو ظهور تعددية قطبية حقيقية، حيث برزت قوى إقليمية جديدة، عازمة على فرض هيمنتها في مجالات مصالحها، ومع تفكك التكتلات العالمية في القرن العشرين، نشهد عودةً إلى عالم القرن التاسع عشر الأكثر حراكاً وتقلبًا.
وماذا خلَّفنا وراءنا؟ حسب كلارك، ما يكمن وراءنا هو عصر التصنيع المتسارع بشكل كبير و«الانطلاق» (كما أسماه الاقتصادي والت روستو) إلى النمو الديموغرافي والاقتصادي المستدام؛ عصر دول الرفاهية والتشبع المادي (على الأقل في الغرب)؛ عصر الصحف الكبرى فوق الإقليمية وظهور شبكات الإذاعة والتلفزيون الوطنية؛ وعصر الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الموقرة ذات المتانة والوزن الكافيين لتكون بمثابة مراسي للهويات الجماعية. كان هذا «العصر الحديث» أكثر من مجرد مجموعة من المؤسسات وفقاً لكلارك، موضحاً أنها خلقت أسطورتها الخاصة، وهي قصة يمكننا أن نرويها لأنفسنا، ووسيلة لتحديد موقع أنفسنا في الوقت المناسب، وفهم من أين أتينا وإلى أين نتجه..
إنما كل هذا سيزول قريبًا، كما يعتقد كلارك، فالحداثة تتفكك أمام أعيننا وإن اختلفت التفاصيل من بلد لآخر ومن بيئة سياسية واجتماعية إلى أخرى، ولكن في العصر الحديث، كانت هناك قصة أساسية، «سردية عظيمة»، على حد تعبير الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار، بدت معقولة لمعظم المنتمين إلى التيار السياسي الغربي السائد؛ قصة ازدياد الرخاء المرتبط بالنمو الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي والعلمي، وعالمية حقوق الإنسان ...إلخ.
هذه السردية العظيمة عن «الحداثة» لم تعد تُريحنا كما كانت في السابق يقول كلارك، فقد أثبت النمو الاقتصادي في صورته الحديثة أنه كارثي بيئيًا، وفقدت الرأسمالية الكثير من جاذبيتها؛ بل تُعتبر اليوم (إذا اتبعنا الاقتصادي توماس بيكيتي وغيره من النقاد) تهديدًا للتماسك الاجتماعي؛ ثم هناك تغير المناخ، الذي يلوح في الأفق كسحابة عاصفة مُهددة وجودنا؛ بالإضافة إلى تزايد حاد في التشكيك في وسائل الإعلام التقليدية مدفوعاً بمروجي الشائعات على الإنترنت الذين استعادوا زمام المبادرة في مجال الاتصالات والمعلومات، تاركين الخبراء والصحفيين المحترفين يكافحون من أجل إيجاد جمهور.
إن الطبيعة المتعددة الأوجه للسياسة المعاصرة، وحاضر الاضطرابات والتغيير دون رؤية واضحة للاتجاه، تُسبب حالةً هائلة من الغموض مما يُساعد في تفسير سبب سهولة اضطرابنا بفعل تقلبات الحاضر وصعوبة رسم مسارنا، فلقد وصلنا إلى نقطة يمكننا عندها القول إن أزمة عصرنا لا تحدث أمام أعيننا فحسب، بل أيضًا في عقولنا حسب كلارك.
تدوي صيحات الصراعات وحجج الديماغوجيين المتوحشين والمتلاعبين أو الشعبويين والمُبسطين المُرهِقين من الأحداث، الذين يريدون دفعنا من شعارٍ إلى آخر، ومن معسكرٍ إلى آخر، ومن موجة غضبٍ إلى أخرى، من المواقع الإلكترونية وقنوات الأخبار، كما يقول كلارك الذي يعتقد أن التفكير الهادئ لم يكن يومًا بهذه الصعوبة، إنما التأمل الهادئ العملي والمفتوح زمنياً، هو بالتحديد ما نحن في أمسّ الحاجة إليه.