: آخر تحديث

الاعتبار من فتنة «الربيع»

22
15
15

أحمد محمد الشحي

تمر الدول والمجتمعات بمنعطفات حاسمة في تاريخها، تظهر معادن الرجال، وتكشف عمق الوعي المجتمعي، وتختبر فيها القيم والمبادئ، ومن أبرز تلك المنعطفات في عصرنا ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي اندلعت شرارته في عدد من الدول العربية قبل أكثر من عقد من الزمن، فكان حدثاً جللاً غلب عليه انفلات العواطف، وغاب عنه التبصر بالعواقب، حتى تحول ما روج له البعض يوماً على أنه ربيع واعد إلى خريف مثقل بالأحزان، خلف وراءه انهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم.

لقد انخدع الكثيرون آنذاك ببريق الشعارات التي رفعت، فظنوا أن الإصلاح يأتي عبر الميادين والشوارع، وأن التغيير يكون بالصدام مع الدولة ومؤسساتها، فاستبد الحماس بالعقول، وغابت عن النفوس روح التروي والاتزان، وامتلأت الساحات بالهتافات الجياشة، وتدافعت الجموع وهي تتوهم انبثاق فجر جديد.

وفي مقابل هذه الحالة الأليمة، نجت دول أخرى بفضل حكمة قيادتها ووعي شعوبها التي أدركت خطورة الفتن، ومغبة العبث بأمن الأوطان واستقرارها، وما يجلبه ذلك من المآسي التي كان واقع المجتمعات الأخرى خير شاهد عليها، ونتيجة وعيها الرشيد وإيمانها بمصالحها الوطنية العليا ازداد تماسكها وتلاحمها، والتفافها خلف قيادتها، لينكسر على هذا الجدار الوطني المنيع كل الخطط الفوضوية التي حاك خيوطها الفوضويون في ظلام دهاليزهم الحالكة.

ومن دروس تلك الفتنة التي ينبغي الاعتبار بها أن من أهم مظاهر الإصلاح الحقيقي المحافظة على الأوطان، وحماية وحدتها واستقرارها، وصيانة مؤسساتها ومكتسباتها، وتوطيد العلاقة المثلى بين الحاكم والمحكوم.

ومن الدروس المهمة كذلك، من واقع تلك الفتنة، أن الإصلاح لا يأتي عبر الشوارع التي يتسلل إليها من شاء، ويدخلها من هب ودب، فيركب موجة المظاهرات الفئات المنتفعة والتيارات الأيديولوجية والتنظيمات المتطرفة، التي تتخذ من الشعارات وقوداً لمآربها.

ومما ينبغي الاعتبار به كذلك أن العاطفة وحدها لا تصنع المستقبل، وأن الانفعال لا يغني عن الوعي، فالأوطان لا تصنع بالهتافات والمظاهرات، وإنما بالعقول والسواعد البناءة وبلغة الحوار المشترك وتكامل الجهود.

لقد ذكر العلماء والحكماء قديماً أن الفتنة حين تقبل لا يعرفها إلا أهل البصيرة، وإذا أدبرت أدركها الجميع، وقد عرف الجميع الآثار المدمرة لما سمي «الربيع»، ورأوا ذلك بأنفسهم رأي العين، والعاقل يعتبر بما جرى، فلا يسمح لتلك الفتن بأن تعود بأثواب جديدة أو شعارات زائفة، ليسلم مجتمعه، وينجو وطنه، وتبقى المكتسبات والإنجازات لأجيال الحاضر والمستقبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد