تُعتبر الكتب ركيزة أساسية لتنمية الثقافة والفكر، حيث تُشكّل جسراً بين الماضي والحاضر، وتُسهم في تشكيل الوعي المجتمعي. في الوقت الذي تزدهر فيه صناعة النشر في أوروبا وأميركا وآسيا، يواجه العالم العربي تحديات هيكلية تُعيق استغلال إمكاناته الثقافية، رغم تراثه الأدبي الغني. وتُبرز الإحصائيات الحديثة الفجوة الكبيرة بين الإنتاج الثقافي العربي ونظيره العالمي، لكن الجهود المضيئة في السعودية تُشير إلى بواكير تحوّل واعد.
أظهرت دراسة لاتحاد الناشرين والطباعة العرب عام 2023 أن العالم العربي أنتج حوالي 17,500 عنوان في 2022، وهو رقم يكاد يُساوي 1.5 % من إنتاج الولايات المتحدة التي نشرت أكثر من 1.2 مليون كتاب وفق تقرير "بُوكر" (2022)، بينما تجاوز إنتاج الصين 500,000 عنوان. أما نصيب الفرد، فيُقدّر بـ8 كتب لكل 1,000 شخص في العالم العربي، مقارنة بـ230 في أميركا و200 في أوروبا حسب تقرير اليونسكو (2022). هذه الفجوة تعود لأسباب متعددة؛ منها انخفاض الميزانيات المخصصة للثقافة، وضعف التوزيع، واعتماد مفرط على الترجمة (60 % من الكتب المنشورة)، مع قلة ترجمة الأعمال العالمية إلى العربية (1 % فقط من الإنتاج غير العربي وفق اليونسكو). إضافةً إلى ذلك، لا يقرأ سوى 3 % من السكان بانتظام، وفق دراسة للبنك الدولي (2023)، ما يعكس اختلالاً في الربط بين التعليم والثقافة.
في المقابل، تُظهر الدول المتقدمة نموذجاً يُبرز التكامل بين الثقافة والتنمية. في بريطانيا، نُشر 200,000 عنوان في 2022، مع انتشار 25 % منها في صيغة رقمية، وفقاً لـ"إحصائيات النشر" عام 2023، بينما تُعزّز ألمانيا وفرنسا النشر عبر دعم حكومي يغطي 30 % من ميزانيات دور النشر. في آسيا، تتفوّق الهند بـ100,000 عنوان سنوياً، مستفيدةً من تنوع لغاتها وتكاليف طباعة منخفضة، بينما تحولت اليابان إلى قوة ثقافية عالمية عبر "المانغا"، التي تُباع 500 مليون نسخة سنوياً (مؤسسة صناعة النشر اليابانية، 2023)، ما يُظهر كيف تُحوّل الثقافة المحلية إلى سلعة عالمية. هذه النماذج تعتمد على بنى تحتية قوية: مكتبات عامة مُتاحة، وتشريعات لحماية الملكية الفكرية، وربط مبتكر بين التكنولوجيا والقراءة.
في هذا السياق، تبرز السعودية كمُحرّك رئيس للتحول، منذ إنشاء وزارة الثقافة عام 2018، حيث وضعت النشر في صلب رؤية 2030، حيث ارتفع عدد دور النشر من 50 إلى أكثر من 200 في 2023، مع زيادة الإنتاج المحلي بنسبة 40 % (حسب تقرير وزارة الثقافة، 2023). ومن أبرز مبادراتها برنامج الترجمة الوطني؛ الذي يستهدف ترجمة 500 عمل عالمي إلى العربية بحلول 2030، مع تركيز على العلوم والفلسفة. معرض الرياض الدولي للكتاب؛ الذي جذب 2.5 مليون زائر في 2023، وأصبح منصةً لتعزيز الحوار الثقافي. ومنصات رقمية؛ مثل تطبيق "كتاب"، الذي يُوفّر مكتبة إلكترونية مجانية، وشراكات مع منصات عالمية لتوسيع الانتشار. وهذه الجهود لم تقتصر على الدعم المالي، بل شملت تأهيل الكوادر وتشجيع الإبداع الشعري والروائي، ما أسهم في ارتفاع عدد المؤلفين السعوديين إلى أكثر من 5,000 في 2023.
أظهرت دراسة لـ"المركز الوطني للثقافة والفنون" (2023) أن مبادرات النشر السعودي رفعت نسبة القراءة بين السكان من 18 % إلى 32 % خلال 5 سنوات، مع تركيز 70 % من المحتوى على تطوير المهارات المعرفية. وساهمت ورش النشر المجتمعية في 130 مكتبة محلية، وفق وزارة الثقافة، في تحويل القراءة إلى عادة يومية، بينما ارتفع استخدام المحتوى التعليمي الرقمي بين الشباب بنسبة 45 %، ما يُعيد تعريف الثقافة كأداة لتمكين المجتمع وبناء الهوية الوطنية.
تُظهر المقارنات العالمية أن تطوير صناعة النشر ليس ترفاً، بل ضرورة لبناء مجتمعات معرفية قادرة على المنافسة. ففي حين يُعاني العالم العربي من تراكمات تؤخره، تُقدّم السعودية نموذجاً يُثبت أن الالتزام الحكومي والمبادرات الذكية يمكن أن يُعيد التوازن، لكن تحقيق التغيير المستدام يتطلب تعاوناً إقليمياً لمواجهة التحديات المشتركة، من قلة التمويل إلى ضعف التنسيق بين الدول، وفي هذا السياق، تبقى مقولة العالم المصري طه حسين مُلهمة: "مستقبل الأمة في ثقافتها"، فعندما تُصبح الثقافة أولوية وطنية، يصبح الازدهار حتمياً، وليس حلماً بعيداً.