: آخر تحديث

مانشستر جريمة أحرقت جسور التعاطف

2
2
2

محمد الرميحي

مساء الخميس الماضي شهدت مدينة مانشستر البريطانية وهي مدينة كوزمو بوليتان، فيها من الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، حادثة درامية، هزت الرأي العام المحلي وتابعتها وسائل الإعلام البريطانية بكثافة، فقد أقدم شخص بتنفيذ هجوم استهدف اثنين من أبناء الطائفة اليهودية بالقرب من معبد يهودي في يوم الغفران، وهو يوم عيد في أجندة اليهودية، تدخلت الشرطة البريطانية وقتلت الرجل.

هذه الحادثة أثارت عاصفة من ردود الفعل ليس فقط بسبب طبيعتها العنفية، بل لأنها جاءت في وقت حساس، يشهد فيه الرأي العام البريطاني استقطاباً حاداً حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وخصوصاً فيما يحدث في غزة.

المهاجم ربما كان يعتقد أنه يناصر القضية الفلسطينية، غير أنه أتى بنتيجة عكسية تماماً، فلأول مرة يقوم ملك بريطانيا تشارلز الثالث، ويتبعه أيضاً ولي عهده بالتنديد بالحدث، كما غادر رئيس الوزراء البريطاني اجتماعاً في أوروبا على عجل، وعاد إلى لندن، وأصدر بياناً غاضباً حول انتشار معاداة السامية في بريطانيا.

قبل ذلك بيومين فقط قدمت مجموعة من حزب العمال في مؤتمرها السنوي اقتراحاً باتهام إسرائيل بإبادة جماعية في غزة، إلا أن هذا الاقتراح عورض من رئاسة المؤتمر، وهو يدل على المزاج المناصر للقضية.

على وجه آخر فقد أرسل أيضاً قبل يومين الرئيس الإسرائيلي رسالة إلى ملك بريطانيا، وصفت بأنها رسالة جافة، ويشير فيها إلى اتساع الكراهية ضد اليهود في المجتمع البريطاني، ربما هذه الخطوة كانت رداً على اعتراف الحكومة البريطانية بالدولة الفلسطينية.

السؤال كيف يمكن لأعمال فردية أو عشوائية أن تضرب قضية عادلة كالقضية الفلسطينية، التي تتطلب خطاباً عقلانياً وأسلوباً حضارياً لإقناع العالم بعدالتها، فتجد نفسها بسبب هذا الحماس المضر ضحية لأفعال متهورة، تفقدها الكثير من الزخم الشعبي، الذي أوجدته المعارك الضارية في غزة؟

الرأي العام البريطاني مثل الرأي العام العالمي يتأثر بشدة بالصور والمشاهدة، ولا يميز في الأغلب بين فعل فردي، وبين نضال شعب يطالب بحريته، وهنا تكمن الخطورة، أن تتحول الأخطاء الفردية والعشوائية إلى عبء ثقيل على حركة التضامن، التي انتشرت في بريطانيا مع الفلسطينيين.

المقارنة في الإعلام البريطاني بين ذلك الهجوم وما يحدث في غزة كان ضعيفاً، وهذا مفهوم، لأن هذا الإعلام ركز على الحادثة وخشي أن يذهب إلى تبريرها بما يحدث في غزة، فيتهم باللاسامية، فالفعل الذي قام به ذلك الرجل قد خدم دون قصد الرواية الإسرائيلية، التي تحاول دائماً تصوير الفلسطينيين كخطر على الغرب وربطهم بالعنف والإرهاب، بل ذهبت السردية الإسرائيلية إلى الربط بين دولة إسرائيل وبين العداء للسامية، فجاءت عدد من التصريحات في هذا السياق بأن انتقاد إسرائيل معناه دعوة إلى اللاسامية، التي هي بالفعل مكروهة، فالضمير الأوروبي حتى اليوم قد تخلص من جزء منها بسبب ما يحدث في غزة، إلا أن الجريمة في مانشستر أعادتها من جديد.

الشرارة العاطفية التي أطلقتها الجريمة جعلت كثيرين يراجعون أنفسهم، ويتراجعون عن القيام بالاحتجاجات المؤيدة لغزة، وقد تم ذلك بالفعل، هذا يسهل على الحكومات الغربية أن تتشدد أكثر ضد مناصري القضية الفلسطينية، بحجة حماية مواطنيها من التطرف المستورد، الذي يحمل شعار اللاسامية، فيضيق الخناق على الأصوات المتضامنة مع القضية الفلسطينية، وتشوه صورة النضال الفلسطيني.

دروس حادثة مانشستر قاسية، فالعنف الأعمى لا يخدم القضايا العادلة بل يقتلها مرتين، مرة حين سفك دماء الأبرياء، ومرة حين يسفك التعاطف العالمي، وتتكون بؤرة مضادة.

القضية الفلسطينية لا تحتاج خارج فلسطين إلى سيارات لدهس الآخرين، ولا إلى سكاكين لطعنهم، بل إلى حجج قوية وشهود صادقين، وحركات سلمية واسعة، قادرة على كسب العقول والقلوب، فالرصاصة التي قتلت المهاجم في مساء الخميس الماضي، لم تُنهِ حياته فقط، بل ارتدت لتصيب صورة القضية، التي كان يظن أنه يدافع عنها في مقتل، وقد قيل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل!».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد