حين وصف محمود الزهّار فلسطين بأنَّها «مسواك» كان يقصد أنَّها أداة صغيرة لقضية أكبر وصفها بـ«قضية الأمة». وهنا تكمن أزمة حركة «حماس» في مقاربتها للمسألة الفلسطينية: أن قادتها يرونها هينة في سبيل هدف أسمى. وما هكذا الوطن في عيون أبنائه.
التناقض بين غزة في عين قادة «حماس» وغزة في «عين الأمة» ليس تلقائياً ولا طارئاً، بل مقصود وحتمي. نشأت المسألة الفلسطينية-اليهودية بالتزامن مع هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية وانهيار إمبراطوريتهم. فقدّمتها الجماعات الموالية على أنها دليل على الشرور المترتبة على انهيار الخلافة. ثم زايد عليهم قادة دول وطنية في محاولة لتثبيت أنفسهم زعماء ورثة. فصارت فلسطين مرادفة للأمة، واختباراً لحالتها. روّج الجميع فكرة «هوان» التضحيات مهما كانت عظيمة في سبيل فلسطين. والترجمة: ما المشكلة أن تنهار دول وتُدمَّر أوطان في سبيل قضية الأمة؟ في هذا السياق غرق لبنان في الفوضى وتزعزع استقرار الأردن واحتُلت أجزاء من مصر وسوريا. لا نزال نسمع صدى هذا الخطاب في مقولة يتداولها بعض مؤيدي «حماس»: «إن احترقت غزة فليحترق العالم».
والعالم لن يحترق؛ المقصود أن تحترق المنطقة، أن تحترق الأمة على وضعها الحالي لكي تُبنَى أمة أشرف. إذ تغير تعريف القضية سراً منذ صعود «حماس» إلى السلطة. لم يعد الهدف دولة فلسطينية أو عودة لاجئين أو أي شكل من أشكال المطالب السياسية يتضمن اعترافاً ومفاوضات. صارت القضية هي الأمة نفسها، تحقيق الأمة، وصارت فلسطين ثمناً زهيداً في سبيل هذه القضية المبهمة، التي يقصد بها العودة إلى زمن الخلافة.
«حماس» ليست وحدها في الترويج لهذا. بل تروج له جماعات متعددة على امتداد المنطقة، تتَّفق كلها على العداء للدولة الوطنية والسعي إلى استعادة هذا الكيان الإمبراطوري الزائل. لكن «حماس» تنفرد عن غيرها بأنها تملك مفتاح الإشعال، في موقع التقاء البنزين والنار. من هنا صار استمرار الصراع في فلسطين، أهم من إنهائه، وأدعى إلى الوصول إلى الهدف الأكبر، قضية الأمة كما عبر عنها محمود الزهار.
تحالف إعادة الخلافة يرى الدول الوطنية حواجز في طريق ذلك الهدف يجب إسقاطها، لا إقامة دولة إضافية في حجم «مسواك». بالصوت والصورة صرح أحد منظري «الإخوان» بأنه لو كان الأمر بيده لوجه «حماس» إلى قتال جيش عربي وليس إسرائيل. الرجل اختصر الطريق إلى الغرض الحقيقي الذي يسعى إليه التنظيم الدولي، وتمنعه الاعتبارات السياسية من التصريح به. أيُّ مطَّلعٍ على فكر جماعة «الإخوان المسلمين» ومشتقاتها يعلم هذا.
ومن هذا المنظور يمكن تحديد الخيارات المثلى لحركة «حماس» والتنظيم الدولي لـ«الإخوان» بعد فقدان غزة: الأفضل أن يتورط الجميع في صراع مع إسرائيل، أو أن يُهجَّر الفلسطينيون إلى سيناء فتُفتح جبهة جديدة، أو أن تحتل إسرائيل غزة ليظلّ مبرر الصراع قائماً. ما عدا ذلك لا يخدم الهدف الأسمى. وقيام دولة فلسطينية لا يخدم الهدف الأسمى.
أحد الأصدقاء علق بذكاء على اعتراف دول كبرى مؤخراً بالدولة الفلسطينية بقوله: «عقبال حماس ما تعترف بفلسطين».
المأساة الأكبر أنَّ الفلسطينيين هم من يدفعون التكلفة. ما تراه «حماس» والتنظيم الدولي هيّناً، هو في عيون الفلسطينيين عظيم – حياتهم وأطفالهم وأحلامهم وكفاح العمر.
وما يزيد الصورة قتامة أنَّ منطق «الأمة» والتضحيات يجد من يغذّيه في الوعي العام، ويرحب به ويفتح له الإعلام الرسمي، حتى في الدول المستهدفة بالإشعال.
في مسألة حل الدولتين، تتلاقى أهداف «حماس» مع أهداف حكومة نتنياهو على ما بينهما من عداء. الطرفان متفقان على رفض قيام دولة فلسطينية، كل لغايته الخاصة.