سيطرتِ المبادرةُ الأميركية ببنودها المزدادةِ بشأن غزة على وسائل الإعلام، حتى إنَّها تفوَّقت على قرار مجلس الأمن بشأن العقوبات على إيران، ونافست موقعة «الروشة» في لبنان، التي أوشكت على إعادة الحالة كثيراً إلى الوراء، ولكنَّها تزامنت مع تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية، الذي توّج بالمشهد التاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لماذا كلّ هذه الحظوة الإعلامية لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ تتَّصل بغزة؟ هنالك أسبابٌ كثيرةٌ ووجيهةٌ لذلك، تختصر بالعناوين التالية:
أوَّلُها.. غزة، والحرب عليها بحد ذاتها تكرّست كقضيةٍ شعبيةٍ رسمية، إذ دخلت كلَّ بيتٍ في العالم كله، حتى رؤساء دولٍ تظاهروا في الشارع من أجل وقف الحرب عليها، وإذا كان الحديث عن تسونامي سياسي اجتاح العالم بخصوص الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فقد تزامن مع تسونامي شعبي لم يخلُ منه شارعٌ من شوارع العالم، وكانت غزةُ هي بطلَ المشهد الكوني.
وثانيها.. الرئيس ترمب المولع بالإعلام، والذي لا يفوّت فرصةً للظهور على منابره؛ من «تيك توك» إلى «فوكس نيوز» وما بينهما، إلا ووضع صوته وصورته فيها، وإذا ما راجعنا جدول أعمال سيد البيت الأبيض، منذ اعتلائه سدتَه حتى اللحظة، لوجدنا أنَّ غزة أخذت الجزء الأكبر من وقته، كأنَّها الشغل الشاغل له.
وثالثها.. إنَّ وقف الحرب على غزة - إن تمكّن من ذلك - فسوف يكون بمثابة نصف الطريق إلى جائزة نوبل التي يحلم بها، خصوصاً بعد تعثّر الجزء الثاني الذي هو إنهاء حرب أوكرانيا.
ولنترك الإعلام جانباً؛ فغزارته أو شحّه ليسا المقياس الدقيق لتقدم الحلول أو ابتعادها، ولنحاول تحديد موقفٍ تقريبيٍّ من فرص نجاح المبادرات المطروحة لحل قضية غزة ويومها التالي، وارتباطها بالقضية الأم قضية الشرق الأوسط وموقع القضية الفلسطينية منه.
بشأن غزة علّمتنا التجربة أنَّ ما كان يرّوج لحلولٍ قريبةٍ أو حتى أكيدة، ثبت بطلانه، والدليل الملموس على ذلك كثرة ما قال ويتكوف... «إنَّ الحل صار وشيكاً»، وكم بشّر الرئيس ترمب بأنه كذلك، ليظهر في اليوم التالي أنَّ الحرب تواصلت بوتيرةٍ أشرس من كل ما سبق، إذن لا بدَّ من الحذر في التعاطي مع بشائر الحلول حتى لو جاءت من الإدارة الأميركية.
ولكي لا نسهم في إشاعة جوٍ من التشاؤم، فيمكن رؤية مؤشراتٍ إيجابيةٍ جديدة ومنطقية، يمكن أن تؤدي إلى بداياتٍ فعليةٍ لوقف الحرب، وحتى لما هو أبعد؛ منها اقتناع الإدارة الأميركية بأنَّها وقعت أو أوقعها نتنياهو في عزلةٍ غير مسبوقةٍ عن العالم، خصوصاً عمَّن تعدّهم أصدقاءها أو حلفاءها، وتعتمد عليهم استراتيجياً في مجال نفوذها ومصالحها، وليس أدلّ على ذلك من المؤشرات القوية التي أنتجها لقاء الوفد العربي الإسلامي بالرئيس ترمب، الذي غيّر كثيراً من اللهجة الأميركية تجاه القضايا التي تهم العرب والمسلمين، كمسألة ضم الضفة وتواصل حرب الإبادة على غزة، وجمود الحركة في العمل باتجاه تسويةٍ متوازنة للقضية الفلسطينية كمفتاحٍ لحلول جميع القضايا الإقليمية المتصلة بها.
ولقد بدا جلياً أنَّ الدبلوماسية المتقنة التي تؤديها السعودية بدعمٍ فعّالٍ من الدول العربية والإسلامية، وبمشاركةٍ مع فرنسا، أسست لمسارٍ جديد يعالج جذور الصراعات وليس مجرد إدارةٍ لإفرازاتها، وهذا ما وضع إدارة ترمب أمام وضعٍ مختلف إن لم يتعاطَ معه بإيجابيةٍ وموضوعية، فسوف يؤدي إلى استفحال عزلة أميركا عن الإرادة الدولية الشاملة، دون وجود أسبابٍ قويةٍ لذلك سوى التماهي مع مجازفات ومغامرات نتنياهو.
غزة؛ ثم القضية الفلسطينية وعنوانها الأبرز الدولة، شهدتا أهم جهدٍ فعّالٍ لنقل حالتيهما من مجال التعاطف الخطابي، إلى مجال العمل الفعلي باتجاهين متزامنين: الأول إنهاء مأساة غزة بإنهاء الحرب عليها، والثاني فتح ملف الدولة الفلسطينية عبر مسارٍ تفاوضيٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدأ الحديث عنه يعلو في أماكن عديدةٍ من مراكز صناعة القرار في السياسة الدولية.
تجارب الماضي بشأن غزة والدولة الفلسطينية لم تكن مشجعةً لرؤية جديد في مجال معالجتهما، أمّا الآن فالأمر اختلف كثيراً بما يرجح احتمالاتٍ إيجابيةٍ وربما تاريخيةٍ نحو الحل، دون أن يفارقنا الحذر من نتنياهو ومن يشد على يده.