ليلى أمين السيف
وما أشد أن تتكرر الفواجع وكأنها المرة الأولى في كل مرة،
كلنا نظن أننا نعرف قدر أمهاتنا...
نظن أننا أحببنا بما يكفي،
بررنا، خدمنا، ووفينا الدين الثقيل،
لكن الحقيقة أننا ما فعلنا شيئًا،
كلنا مغرورون بالوقت...
وكلنا سُذّج أمام الموت.
حتى جاءت لحظة الرحيل...
الوداع الأخير،
تلك اللحظة التي لا عزاء فيها، لا منطق، لا نفس..
مجرد قلب يُسحب من صدرك دون رحمة،
مجرد نظرة أخيرة على جسد بارد،
ويدٍ لا ترد السلام،
وصوت منكسر يتمتم: يا أمي سامحيني.
فهل يتعظ الأحياء؟
هل نُبصر من بقي قبل أن يُغلق عينيه إلى الأبد؟
هل نقول «أحبك» لمن يستحقها قبل أن نُضطر لقولها عند قبره؟
هل نُمسك يدًا مُتعبة قبل أن يُثقلها الكفن؟
هل نلبي طلباتها قبل أن نسمع خبر وفاتها؟
أتبكيها فقط حين تغيب ملامحها عن الكراسي، ويوحش البيت من ضجيجها الحنون؟»
إنها وصايا الأمهات التي لم تُقال،
ودروس الفقد التي لا تُنسى،
أن نُبادر، نُحب، نُعانق،
أن نُعطي قبل أن نُحرم،
أن نستيقظ قبل أن يُصبح الدعاء هو كلّ ما تبقّى.
فهل يتعظ الأحياء؟
أم سيظلّ الحب مؤجّلًا حتى تُباغتنا النهاية؟
يا الله... كيف نعيش بعد موت الحياة؟
كيف يُقنع المرء نفسه أن التي كانت تفتح له الباب،
لن تعود؟
وأن الحضن الذي يبتلع خوفه...
صار تحت التراب؟
كم من أمٍّ رحلت، ولم تترك خلفها سوى رائحة دعاء، ووسادة مائلة، ونظرة كانت تودّ لو تُقال.
كانت بيننا كالنور، لا ننتبه لوجوده إلا إذا انطفأ.
كلنا نظنّ الأم قوية لا تهزم، صلبة لا تنكسر، بينما هي تُخبّئ تحت عينيها مواسم من التعب،
وفي قلبها سهولًا من الحزن،
تُمسك وجعها بيد، وتربّت على ظهورنا باليد الأخرى،
كأنها لم تُخلق لتُحبّ فقط، بل لتحتمل أيضًا.
أمي،
أنا لم أكن مستعدة، ولا سأكون...
رحيلك موجع ، كسرني بكل طريقة لا يمكن إصلاحها.
أسمع ضحكتك ولا أجدك،
أحضّر كلامي ولا أحد لأقوله له،
أمشي في البيت وكأني أمشي فوق غيابك،
كيف يُشفى من فقد أمه؟
كيف يُشفى من كانت «أنتِ» حياته؟
أبكيكِ في صمتي، وأنصت للمعزين وأنا أنزف داخلي،
أمي...
لو أن الحنين يعيدك إلينا لكنتِ الآن بيننا،
لكني أعلم...
أنكِ في مكان أجمل،
ولعل الله يسمعني الآن،
فأقول له: رب ارحمها كما رحمتني صغيرًا، وبلّل تربتها بنورك، واملأ قبرها برضاك وأنت أرحم الراحمين.
أمي..
أحبك..
وأنت معنا
وأنت تحت رحمة الرحيم في ضيافة الكريم.