يكاد يصحُّ فينا قولُ الشاعر العربي: «يَرضى القتيلُ وليس يَرضى القاتلُ»! وكأنما لم يكفنا غضب بنيامين نتنياهو، فقد غضب علينا الرئيس دونالد ترمب أيضاً، وراح يكرر كلام الدعاية الإسرائيلية: الاعترافُ بدولة للفلسطينيين انتصارٌ لـ«حماس»! وكيف يكون الأمر كذلك وإنما بدأت «حماس» مقاومتها العظيمة أواسط التسعينات لإجهاض مشروع الدولة الفلسطينية، وفي وقت كان فيه معظم الإسرائيليين راضين بمشروع الدولتين، ومقبلين على السلام مع الفلسطينيين؟! «حماس» الإسلاموية مثل القوميين العرب الراديكاليين: «فلسطين إسلامية» أو «عربية» من النهر إلى البحر.
حدثُ الاعتراف العالمي الغلّاب بالدولة حدثٌ غير عادي بالفعل. فكل الدول المستعمرة كانت هناك فرحة بحصولها على الاستقلال بعد نضالٍ وقتال، خصوصاً الجزائر، على سبيل المثال، بلد المليون شهيد. لكن حتى استقلال الجزائر أو جنوب أفريقيا ما كان في مواجهة إسرائيل... إسرائيل التي تحمل على رؤوس جنودها ومدرعاتها تاج الهولوكوست أو الإبادة النازية، والتي تَنافس الأميركيون والسوفيات أيهم يعترف بها أولاً عام 1948، وقد افتخر السوفيات بأنهم تفوقوا على الأميركيين بفارق ساعات.
أنشأ إسرائيلَ حزبٌ عمالي يساري جلس في حضن الغربَيْن الأوروبي والأميركي. و«الوطن القومي لليهود»، الذي وعد به آرثر بلفور وزير المستعمرات حاييم وايزمان عام 1917، سبق الهولوكوست. ولذلك؛ ما كانت الإبادةُ النازية السببَ الوحيد، بل الاضطهاد الذي نال من اليهود طوال قرونٍ وقرون؛ ولأسبابٍ دينيةٍ وقومية وعرقية. كأنما ما كان انتصار أوروبا وأميركا والاتحاد السوفياتي على النازية ليكتمل إلا بإقامة الدولة لليهود على أرض فلسطين. وما اكتفى الأوروبيون والأميركيون بالدعم المادي والعسكري والتنموي والتكنولوجي، كما لم يكتفِ الاتحاد السوفياتي (وبعده الاتحاد الروسي) بإرسال المهاجرين؛ فزوَّد الفرنسيون الدولة العبرية بـ«النووي»، وظلت صناعة السلاح البريطانية، ثم الأميركية، في خدمة إسرائيل. فرغم أن إسرائيل، وبحماية حلفائها، انتصرت في «كل» حروبها، فإنّ الهاجس الأمني ظلَّ غلّاباً، وقد تنافس الغربيون في المسارعة إلى تدريع الكيان الصهيوني إلى ما فوق الإشباع.
إنّ ما يحدث الآن من اعترافٍ بدولة فلسطين ما كان يمكن تصور حدوثه قبل سنتين. هل صار الأوروبيون أكبر إنسانية؟ الطرفان تغيرا؛ الأوروبيون والإسرائيليون. فأوروبا، التي شبعت حتى الثمالة من الحروب في تاريخها وحاضرها، صارت تخشى الطاغوت الإسرائيلي مثلما تخشى الطاغوت الروسي.
هل تستفيد «حماس» من إقامة الدولة؟ بالطبع لا، وستتحول إلى خصمٍ كما حدث عام 2006 عندما فازت بالانتخابات! استند الفوز إلى انقسامات «فتح» وفسادها، واعتقدت «حماس» أن الفوز يعني أن مشروع «دولة أوسلو» لا يعجب الفلسطينيين، فاصطنعت لهم «حماس» غيتو غزة المأساوي!
يجتمع عرب كبار بالرئيس ترمب في الأمم المتحدة هذه الأيام. وقد قال ترمب يوم الثلاثاء إن العلاقات بدول الخليج ممتازة. ودول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وهي في يومها الوطني، بذلت أقصى جهدٍ ممكنٍ؛ ممارِسةً دبلوماسيةَ الإقناع. وهي، وقد نجحت للحدّ الأقصى، مضطرة من أجل الدفاع عن مكسب استراتيجيتها إلى أن تصبر وتصبر على ترمب وأمزجته. ليس بِالوُسع تسميته بما كان الفزاريون في زمن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يسمون زعيمهم عيينة بن حصن. لكنه بالتأكيد من «المؤلّفة قلوبهم»، فهل يمكن إقناعه، وهو المغرم بالصفقات، بأنّ صفقة الدولتين هي «أفضل الصفقات»، ليس للفلسطينيين فقط، بل وللإسرائيليين الذين لا يستطيعون مهما بلغ تفوقهم العسكري أن يشنوا حروباً «دائماً» على جوارهم بحجة حقهم في «الدفاع عن النفس»، الذي صار فجأةً «تغيير وجه الشرق الأوسط»، ثم صار «مشروع إسرائيل الكبرى»!
لن يضيع عملٌ سعودي دبلوماسي وسياسي كبير دار لسنوات عدة لاستعادة الدول من الميليشيات في فلسطين وخارج فلسطين.
طوال مائة عامٍ وأكثر دار الصراع على فلسطين؛ بين الشعب الفلسطيني والاحتلال البريطاني، ثم بين الشعب الفلسطيني والمستوطنين اليهود، ثم بين الشعب الفلسطيني والصهاينة الذين صاروا جيشاً ضخماً، ثم بين الدول العربية والجيش الإسرائيلي. واليوم يعود الأمر إلى ما بدأ به: الشعب الفلسطيني يموت ويموت بالرصاص، والعرب يموتون قهراً، والعالم يعاني الذل والعجز أمام الجبروت الإسرائيلي والترمبي... فإلى متى؟
كان السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر (1864 - 1920) يقول إنّ العَمَلين؛ السياسي والعلمي، كليهما، لا يحققان النجاح الكبير إلا باجتماع «الرسالة» أو «أخلاق الاعتقاد» أو «الاقتناع»، مع «أخلاق العمل». وقد اقترن الأمران. النضال الكبير الذي خاضته المملكة، ومن ورائها العرب والأوروبيون، والذي أدّى إلى هذه النتيجة بالغة الجدية على المستوى الاستراتيجي العالمي، يَعِدُ بمآلاتٍ كبرى للمنطقة والعالم؛ منها السلام والازدهار... فهل يظل الرئيس ترمب غاضباً مع أنه يريد صنع السلام؟!