: آخر تحديث

نُخبٌ أسعدت جزيرة العرب

4
4
5

علي بن محمد الرباعي

يحاول العرفاني، الوصول إلى معنى المعنى بقراءته للتاريخ، فيما يجتهد العقلانيون لالتقاط العِللَ والأسبابَ، من بين سطوره؛ لتحليل النتائج، ويستظهر السياسي من القراءة مكامن القوّة، وقوة المكانة والتأثير، ويظّل سر وإعجاز التاريخ في كونه لا يتناهى من حيث معناه، وإن تناهت إمكاناته وتضعضع مبناه؛ وقراءة التاريخ قنطرة، لأخذ العظة والعبرة، كما أورد القرآن الكريم عن قصص السالفين (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، علماً بأن هناك من يقرأ للمتعة والتسلية، وهناك القارئ الشامت، والقارئ الساخر، والقارئ متتبع السقطات.

لم تنسَ جزيرة العرب ولن، ما طاولها من تجاهل، وربما إهمال، في ظل ندرة حظوة وعناية طيلة قرون بحكم ظروفها المناخية، وتضاريس على الترويض عصيّة، ناهيك عن إنسانها الذي صادق الوحش، وسامر الجنّ، وتشكّلت شخصيته وفق براغماتية تكتنفها ضبابية إن لم تكن ظُلْمة؛ حتى مع الكون، إذ جعل من كل ما يخاف منه؛ إلهاً يعبده من دون الله.

والمُنصف الموضوعي لن ينسى وهو يقرأ تاريخنا العربي المعاصر، الفترات المضيئة، خصوصاً تلك التي لها سوابق؛ قبل تكوّن المنظومة السياسية المعاصرة، وأول إضاءة لهذه الجزيرة المُلْهمة؛ كانت لأبينا آدم عليه السلام، باعتباره أول إنسان بنى الكعبة في أُم القُرى، بحسب رواية ابن عباس رضي الله عنهما، فيما أتمّ البناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وقيل إن الملائكة عليها السلام بوأت المكان، وآدم عليه السلام وضع القواعد، والخليل وابنه رفعا الأركان، وبهذا اشتركت في البناء الأرض والسماء.

فيما كانت رسالةُ محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، أكبر منحة، رفع الله بها أسهم جزيرة العرب؛ وبزّت الروم وفارس بل وفاقتهما (روحيّاً وثقافياً وعسكرياً واجتماعياً) حدّ العجز عن المجاراة، فلا وجه للمقارنة، ولا مجال للمنافسة، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم، رسول الناس كافة؛ جمع الفارسي والرومي والحبشي والآسيوي والأفريقي، وحنّت إليه الجمادات، وردّت عليه السلام غير البشر كائنات، نظير ما حمل في قلبه من محبة وخير وجميل صفات، ولأنه عليه السلام عشِقَ المكان انطبعت فيه بصمته، وتخلّد فيه أثره، ودام على مرّ الأزمان عِطرُ ذكراه، وأفادت الأرض والكون، من خير ما جاء به، وما دعا إليه.

ولا خلاف على أن الملك عبدالعزيز؛ وجه سعد جزيرة العرب منذ مائة عام، وسيظلّ ذلك كذلك، والبطولة قَدَر، والكرامات اصطفاء؛ وهو دون ريب، زعيم متعدد المواهب، ولعل للثنائيات ملمحاً واضحاً، في شخصيته وسيرته ومسيرته، فهو محاربٌ هُمام إذا شدّت الهيجاء إزارها، ومُسالم وادعٌ إذا حطت الحرب أوزارها، فيه دهاء رَجُل الصحراء، ومهارة وحذر ابن المدينة، وشدّة طالب الحقّ، وعفّة الزاهد في الباطل، يرفع الكُلفة أحياناً ليستدرج بحنكته مستشاريه، ليبوحوا له بما في نفوسهم مما يخالف رأيه، ويجمع الآراء ثم يوازن بينها، ويرجّح ما يراه الأصلح للناس، يغضب لكنه لا يحقد، ولا يعجل بردات الفعل، إلى أن تثبت له صلافة ومراوغة خصمه؛ يُنصف العدو اللدود؛ إنصافه للصديق الودود، ولذا اتفقت عليه وفيه شهادة الأصدقاء والأعداء.

في كلّ كلمة ألقاها صقر الجزيرة، يخاطبه شعبه؛ بإخواني، أو أبنائي، أو شعبي، ففيه من آدم عليه السلام حنيّة الأبوّة، وفيه من إبراهيم الخليل البناء والتوكّل، وفيه من محمد صلى الله عليه وسلم حبّ الخير لكل أحد، وهو للبذل أسبق، وللعفو أقرب، ولإنصاف مظلومٍ أحسمُ وأحزم، ومن كلِّ حُسنٍ في تاريخ الإنسانية، يتخذُ أسوة حسنة، وجمع حوله نجوماً، ما غشّت واثق الخطوة في مسراه، ولا دقت في قفاه، بل كانوا بوحي من شخصية ملكنا المؤسس، يعتبرون الوطن السعودي وطنهم.

أعذرُ من جهل شخصيّة الزعيم الذي جاءته الزعامة منقادةً، في محاولته تعتيم ضوء الشمس، بغبار أفراس ليست أصيلة، فكلّ وحدة حاولت مجاراة وحدتنا، لم تدم أكثر من ثلاث سنوات مُجدبة، فيما نحن نحتفل بالذكرى الخامسة والتسعين للخصب والرخاء والازدهار والعطاء، وسيحتفل أولادنا وأحفادنا بأضعاف مضاعفة من ذكرى يوم الوطن المجيد الذي فيه من أبو البشر آدم، ومن إبراهيم الخليل، وهاجر وإسماعيل، ومحمد صلى اللهُ عليهم أجمعين وسلم، وفيه من عبدالعزيز بن عبدالرحمن، الذي لم يقاتل الناس، بل تآلفهم، وحارب بهم الجهل، وقاتل معهم الجمود، ورفض لأجلهم التآمر، ونشر العِلم، ووطّد دعائم الأمن والاستقرار.

ليس كل من مرّ بجزيرة العرب تسبّب في سعادتها، فهناك من سامها التعاسة، إزاء من جعل أفئدة من الناس تأوي إليها؛ وكان يمكن أن تكون جزيرة العرب نسيّاً منسيّاً، شأن مواقع من كوكب الأرض، إلا أنّ حظها أكبر منها كما نقول في الأمثال، ولو افترضنا أنّ الملك عبدالعزيز لم يستكمل مشروع الوحدة والتوحيد؛ فكيف يا ترى سيكون حال جزيرة العرب؟ هل تكون سعيدة؟ أم على حالها الذي كانت عليه قبل توحيدها؟.

لا ريب أن هناك حشوداً من الساسة والشعراء والأدباء والعلماء والفقهاء والفلاسفة والفنانين، أسهمت في إسعاد جزيرة العرب، وهم أشبه بتلال صغيرة، لا تباري الجبال، ولا تضاهي القمم، كونها لن تبلغها طولاً، وإن كانت الجبال لا تأنف من مجاورة التلال، ويظلّ البون شاسعاً، والفرق كبيراً؛ بين من أسعد جزيرة العرب سعادةً أبديّة، ومن أسعدها سعادةً وقتيّة، أو وهميّة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد