علي عبيد الهاملي
حين يكتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لا يكتب بمداد الحبر وحده، بل بمداد التجربة، وزاد الخبرة الممتدة، ورحلة مليئة بالمواقف والتحديات.
كلماته تأتي محملة بصدق الممارسة وحرارة التجربة، ولذلك تبدو للقارئ أقرب إلى بوح حي من أن تكون مجرد سرد بارد.
في الجزء الأول من كتاب سموه الجديد «علمتني الحياة» نحن أمام نص مختلف، ليس مذكرات تقليدية، ولا دروساً إدارية جافة، بل صفحات تتنفس فكراً وحكمة، وتجمع بين الطموح الإنساني والواقعية التي تضع كل فكرة في موضعها الصحيح.
صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، بصفته كاتباً هنا، لا يقص علينا الأحداث كما تُروى القصص، بل يقدمها كما لو أنه يجلس وجهاً لوجه مع قارئه؛ يتحدث عن محطات من عمره، ثم يترك بين يدي القارئ عصارة التجربة، وكأنه يضع بين يديه مصباحاً ينير الطريق.
اللافت أن كل فصل مركز، كل قصة تنتهي بعبرة، كأن الكاتب يريد أن يقول إن الحياة ليست بطول صفحاتها، بل بعمق دروسها، إنها المدرسة الكبرى التي تُصنع فيها القيادات وتُصقل فيها العقول.
القيادة في رؤية سموه ليست سلطة يتزين بها القائد، ولا مظاهر وجاهة يفاخر بها، بل خدمة ومسؤولية ومشاركة. القائد الحقيقي عنده هو من يقف في الميدان لا خلف المكاتب، من يعيش تفاصيل العمل قبل أن يشارك في صناعة القرار. يذكّرنا بأن التردد أخطر من الخطأ، وأن القرار الجريء، وإنْ أثار الجدل، قد يفتح أبواباً لم تخطر على بال، بينما الانتظار الطويل قد يضيع الفرص ويهدر الزمن.
الكتاب لا يقف عند مفهوم الإدارة، بل يتجاوزه إلى منظومة القيم التي صنعت شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.
الإيجابية التي تجعل الأزمات جسوراً إلى الفرص، العدل الذي يراه قاعدة لا يقوم مجتمع من دونها، الطموح الذي لا يعرف سقفاً، يبدأ من فكرة صغيرة، وقد يبلغ حدود الفضاء.
هذه القيم ليست مجرد كلمات، بل محطات في حيات سموه عاشها وأراد أن تكون نبراساً للآخرين.
بين السطور نجد الإنسان قبل الزعيم، الطفل الذي نشأ في حضن الصحراء، وتعلم منها الصبر وقوة الإرادة، الشاب الذي أحب الفروسية فرأى فيها رمزاً للنبل والكرامة، الحاكم الذي عاش مع الناس في أسواقهم ومجالسهم وشاركهم تفاصيل حياتهم، ليؤكد أن القائد الحق هو الأقرب إلى الناس والأقدر على فهمهم. هذه التفاصيل تعطي النص صدقه ودفئه، وتجعل القارئ يشعر أنه أمام حكاية إنسان قريب لا مجرد سيرة قائد عظيم.
الرسالة الأعمق في الكتاب هي تلك الموجهة إلى الشباب، فكل فصل ينتهي بنصيحة أو دعوة للعمل والتفاؤل والإقدام، كأن سموه يريد أن يقول لجيل اليوم والغد إن المستقبل لا يُصنع بالأحلام وحدها، بل بالجهد والإصرار والقدرة على تحويل الرؤية إلى واقع ملموس، يذكّرهم بأن الإمارات التي يرونها اليوم لم تأتِ صدفة، بل قامت بجهد رجال حملوا على عاتقهم الحلم والإرادة والإصرار على التميز.
«علمتني الحياة» ليس مجرد كتاب، بل هو خلاصة رؤية وتجربة أراد صاحبها أن يشاركها مع كل من يؤمن أن الحياة أكبر معلم، وأن الحكمة ليست حكراً على الفلاسفة، بل يمكن أن تولد من قلب التجربة، ومن ميدان العمل، ومن تفاصيل الحياة اليومية.
هو كتاب يجعل القارئ يتأمل في واقعه، ويعيد النظر في علاقته بالحياة والعمل والناس، ويمنحه طاقة إيجابية تدفعه إلى الأمام.
إنه كتاب يضيء للقارئ علاقة جديدة بالحياة، يجعله يعيد التفكير في ذاته، في عمله، في مجتمعه. ليس مجرد صفحات تُقرأ، بل طاقة إيجابية تُمنح، ودعوة إلى أن تكون التجربة الشخصية زاداً للآخرين. وحين ينهي القارئ قراءة آخر صفحة من الكتاب، يكتشف أن الرسالة وصلت، وأن الحياة أكبر من أن تُختصَر في نجاح أو إخفاق، لأنها عندما تتحول إلى دروس، تصبح زاداً يعين على مواصلة الطريق بثقة وإصرار.
هذا ما أراد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أن يقوله، وهذا ما يبقى عالقاً في ذهن كل من يقرأ الكتاب؛ أن الحياة علمت سموه، وهو بدوره ينقل ما تعلمه، ليجعل التجربة إرثاً ووهجاً ممتداً للأجيال، يعلمها كيف تعيش الحياة.