ليلى أمين السيف
المطبخ عند أمي لم يكن مجرد مكان للطبخ، بل كان قلب البيت النابض، حيث كل ركن يروي حكاية قلبها. كنت العين الصغيرة التي لا تفارقها، أراقبها وهي تقطع البصل بخفة، وتلقي الفلفل الحار في القدر وكأنها تلقي فيه روحها، أتابعها وهي تحرِّك الكبدة اليمنية برفق، وأتساءل: كيف لمجرد بهارات وقطرات زيت أن تتحول في يديها إلى سحر يذوب في الفم ويشبع القلب قبل المعدة؟
كنت أراقبها بعينيّ الصغيرتين، وهي تطهو وتغني، وتضحك كأنها تطبخ الفرح نفسه. لم يكن أحد في العائلة يجرؤ على منافستها في الطهو؛ فهي كانت تعرف أن ما تضعه على المائدة ليس طعامًا وحسب، بل حياة تُسكب في القدور، تُخلط بالحب، وتُقدَّم بابتسامة وأحياناً بنظرات صارمة إن تأخرنا على الجلوس على المائدة منذرة أنها لن تبق شيئاً لمن يتأخر.
كنت أظن أنني تعلَّمت سرها، وأنني حين أكبر سأعيد ذات المذاق. جربت كل الطرق مرات لا تُحصى. قطعت البصل كما كانت تفعل، سكبت الزيت على مهل كما كانت تسكبه، قلّبت الكبدة كما كانت تقلّبها، انتظرت الرائحة تملأ المطبخ، خبزت الرغيف كما كانت تخبزه حتى ينتفخ ويضحك على النار... لكن الكبدة لم تكن ككبدة أمي.
حتى الخبز... كان يخرج من يدي ناشفًا، بلا طعم، بينما رغيفها كان رطبًا دافئًا كحضنها، وكأنه يحمل دفء قلبها في كل فتحة من فتحاته.
كنت أظن أنني حفظت سرها، أنني سأكبر وأصنع مثلها، لكنني كبرت واكتشفت أنني لم أحفظ سوى الذكرى.. ذكريات الرائحة، والضحك، وحركة يديها السريعة على الخبز، وهمساتها التي كانت تملأ البيت أملاً وحياة.
قلت ربما السر عند أخواتي.. لكن لا، لم يتقنّ شيئًا من يديها.
ذهبت إلى مطاعم المدينة، جرَّبت كل الأطباق، دفعت ثمنها بوجع، كنت أبحث عن نكهة «كبدة أمي»، عن طعم يضاهي رغيفها الساخن، فلم أجد.
وأدركت متأخرة أن السرَّ لم يكن في الزيت ولا في البصل، ولا في وصفة محفوظة في دفتر. السر كان في قلبها، في ضحكتها وهي تمدّ لنا رغيفًا ساخنًا، وكأنها تمدّ لنا قلبها بين كفيها، في لمعة الرضا التي كانت تملأ عينيها وهي تسمع منا المديح، وفي دعائها الصامت قبل وضع الطبق: «اللَّهم بارك في أولادي، واجعلهم سالمين».
حتى في شدتها كانت محبَّة، وفي عتابها كان حنان. كنا نجلس في الصالة، نأكل ونضحك ونمدح طعامها، فإذا فرغنا من الصحون التفتت إلينا جميعًا -أبناءً وبنات- وقالت بصوت صارم لكنه مغموس بالحرص:
«الشغَّالة جاءت لتساعدني أنا.. أما أنتم، فعليكم أن تهتموا بأنفسكم، وتتركوا المكان كما وجدتموه».
كانت كلماتها أوامر واضحة، لكننا كنا نسمع خلفها قلبًا يربينا بالحب قبل أن يربينا بالنظام. كان حبها يتسرَّب في كل تفصيلة؛ في اللقمة، في الضحكة، في الدعاء، وحتى في العتاب.. ولهذا لم يكن طعامها مجرد طعام، بل حياة كاملة تذوب في القدر وتُقدَّم إلينا على طبق.
ماتت أمي.. صمت المطبخ.. بردت الطاوة.. لم يعد الرغيف يضحك وهو ينتفخ، ولم يعد طهي الكبدة معجزة.. كل شيء أصبح عاديًا، باهتًا، مجرد وصفة ناقصة بلا سر.
رحلت هي، ورحل معها المذاق الوحيد الذي كان يخصّني، أنا الكبيرة التي كنت أظن أنني أحفظ السر.. رحلت أمي، وصار الطعام مجرد طعام، صار الخبز مجرد خبز، وصارت المطاعم كلها باهتة.. لأن الأم حين تغيب، تغيب معها النكهة، ويصبح البيت ناقصًا، وكل زاوية فيه تئن بحنيننا.
أحنّ لأمي.. ليس فقط إلى خبزها الذي كان يدفئ اليد والقلب معًا، كما يحن محمود درويش، بل أحنُّ إلى ضحكتها، وإلى زعلها، وإلى دفء حبها واهتمامها بكل تفصيل في حياتنا، حتى تناقضاتها التي كانت تجعلها حقيقية، تجعل البيت حيًّا، تجعلنا نشعر بالأمان بلا شروط.
أحنُّ إلى نظرتها الغاضبة التي كانت تحمل الحب أكثر من الغضب، إلى صمتها الذي كان أبلغ من أي كلام، لأنه كان يملأ البيت دفئًا.
أحنُّ إلى كل لحظة زعلها، وكل مرة غضبت فيها لأمر صغير، وكل مرة عاتبتنا فيها لأنه لم يكن غضبًا بقدر ما كان حرصًا وحبًّا خالصًا. أحنُّ إلى كل دفء حبها، إلى صراحتها، إلى كل تناقضات روحها التي كانت تجعل حياتنا مليئة بالألوان، حتى حين كانت عصبية أو حزينة، كانت تترك أثرًا جميلاً لا يُمحى.
أحنُّ إلى حضورها الذي كان يجعل البيت وطنًا. رحلت أمي، ومعها كل تفاصيلها، كل روحها، كل شيء كان يجعل الحياة أمانًا وحبًا، وكل شيء صار ناقصًا، باهتًا، مجرد ذكرى تؤلم القلب.
الأم.. هي الوطن الذي يتهشم في قلبك بمجرد رحيلها، هي الدفء الذي لا يُعوَّض، هي الضحكة التي لم يعد لها صدى، هي كل شيء صغير وكبير في حياتك، وكل شيء رحل معها، لكنها تظل الحاضرة في روحك، في ذكراك، في دعائك، وفي كل تفاصيل الحياة التي لم تعد كما كانت إلا لأنها كانت موجودة.
سلام على خبزها، سلام على ضحكتها، سلام على عتابها، سلام على كل شيء كان يجعل البيت حيًّا.. وسلام على أمي، المعجزة الحقيقية في حياتي، التي رحلت، ولكن روحها، حبها، وتعاليمها ستبقى معي إلى الأبد.
** **
- كاتبة يمنية مقيمة بالسويد