تغير اقتصاد الطاقة بعد أقل من قرن من انطلاق الصناعة النفطية، فبدلاً من إهمال الشركات اكتشاف بئر غازية خلال النصف الأول من القرن العشرين وحتى أوائل النصف الثاني من القرن، نظراً لعدم وجود سعر مربح للغاز الحر أو الغاز المصاحب عندئذ، لجأت الشركات في حينه إلى حرق الغاز للتخلص منه، ومن ثم نيران الآبار التي كانت تغطي حقول النفط والدخان المتصاعد منها، ومن ثم الغيوم السوداء الناتجة عنها. والسبب في عدم حاجة الشركات النفطية للغاز في حينه، هو عدم وجود سوق عالمية للغاز. وبالفعل، فإن أول شحنة من الغاز المسال عالمياً كانت من قبل شركة «سوناطراك» الجزائرية من مصنع «كامل» في سكيكدا، إلى السوق البريطانية عام 1964.
من نافلة القول أن النفط لم يكن المصدر الأول والوحيد للطاقة في القرن العشرين، فقد سبقه وشاركه لاحقاً الفحم الحجري. وبالفعل، بدأ دور الفحم في تزويد الطاقة منذ بداية الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر (1760)، حيث تم حرق الفحم للحصول على الطاقة في صناعة المنسوجات والمحركات البخارية وصناعة الحديد والصلب ووسائل النقل (بالذات السكك الحديدية). وتصاعد حرق الفحم إثر نشوب الحرب الأهلية الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر في معظم القطاعات الاقتصادية سابقة الذكر، لكن بدأ الفحم يواجه منافسة قوية في أوائل القرن العشرين مع البدء باستهلاك المنتجات النفطية، فبدأ تقلص الطلب عليه.
إلا أن التحدي الأهم لاستعمال الفحم بدأ مع أوائل القرن الحادي والعشرين الحالي، نظراً للاهتمام العالمي الكبير بالانحباس الحراري والتغير المناخي والتلوث البيئي. ورغم توجيه اللوم للوقود الأحفوري عامة لهذه الظواهر، تم توجيه الانتقادات الأكبر إلى الفحم، لكن رغم هذه الانتقادات الحادة، فإنها لم تؤدِّ إلى تقليص الاستهلاك للفحم بسرعة؛ فقد استمر حرق الفحم، حيث بقي يشكل نحو 30 في المائة من الوقود لتوليد الطاقة الكهربائية الأميركية حتى أوائل القرن الحادي والعشرين. هذا ناهيك عن استمرار استعماله في دول منتجة أخرى، كالصين والهند وبولندا.
السؤال: لماذا التأخر في إغلاق مناجم الفحم؟ والجواب: اعتماد الكثير من الصناعات المحلية ومحطات الكهرباء في الدول المذكورة على الفحم المحلي للحصول على الطاقة، نظراً لتوفره محلياً وبأسعار تنافسية، كما أن نقابات عمال الفحم لعبت دوراً مهماً في استمرارية الصناعة للحفاظ على وظائف عمال المناجم، الذين كثيراً ما شكلت مجموعاتهم قرى بأكملها، مدعومة من قبل السياسيين لهذه المناطق.
تحاول الآن كل من الصين والهند وبولندا وألمانيا إغلاق مناجمها الفحمية، بعد أن أغلقت بريطانيا مناجمها سابقاً.
ويتم تقليص حرق الفحم باستبدال الغاز أو الوقود النووي به في تزويد الطاقة للمحطات الكهربائية، بالإضافة إلى استخدام المنتجات النفطية التي بدأت تدريجياً منذ عقد السبعينات الإحلال محل الفحم في بعض المحطات الكهربائية.
كذلك، كان سبب تكثيف استهلاك الغاز منذ بداية المرحلة الثانية للصناعة النفطية في أوائل عقد السبعينات، نجاح مفاوضات منظمة «أوبك» مع كبرى شركات النفط العالمية في إنهاء احتكار الشركات للصناعة، وتغيير اتفاقات الامتياز لاكتشاف وإنتاج النفط، والأهم تغيير تسعير النفط. فبدلاً من استمرار ثمن سعر برميل النفط نحو دولار أو دولارين للبرميل، حصلت تعديلات مهمة للأسعار، حيث تحول سعر البرميل إلى 70 - 30 دولاراً للبرميل، وأكثر في بعض الأحيان، الأمر الذي دفع الشركات الاهتمام بالغاز الذي ارتفع حجم استهلاكه كبديل للنفط والفحم، ومن ثم ارتفع سعره تدريجياً، حتى أصبح تسويقه مربحاً للشركات.
أدى التغيير الضخم في أسعار النفط الخام إلى الاهتمام بتسويق الغاز في قطاعات صناعية متعددة بدلاً من النفط الأكثر سعراً. وتوسع دور الغاز تدريجياً في توفير الطاقة، في الصناعات البتروكيميائية ومحطات توليد الكهرباء ومحطات تحلية مياه البحر ومراكز المعلومات للذكاء الاصطناعي.
تشير إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن استهلاك الغاز سجل رقماً قياسياً مقداره 91.4 مليار قدم مكعبة يومياً في 2025. وقد بدأ الإنتاج الضخم من الغاز الأميركي مع بداية الإنتاج التجاري للغاز والنفط الصخري الأميركي في عام 2014. وقد بدأت كميات ضخمة من هذا الغاز تصدر إلى الأسواق العالمية، ناهيك عن استعمالها أيضاً في السوق الأميركية الضخمة. وعلى سبيل المثال، تستورد السوق الأوروبية حالياً 61 في المائة أكثر من الغاز الأميركي، عما كانت تستورده قبل حرب أوكرانيا، وذلك نظراً لحظرها للغاز الروسي.
اللافت للنظر في التحول الطاقوي الواسع منذ النصف الثاني للقرن العشرين، وحتى يومنا هذا، هو أنه رغم استبدال وإحلال الغاز محل المنتجات النفطية، أو الفحم، فإن الطلب على النفط في ازدياد سنوي مستمر، رغم الحملات المعادية له بسبب الاحتباس الحراري.
تدل المعلومات المنشورة في كتاب «إحصاءات (أوبك) السنوية لعام 2025» أن الطلب العالمي على النفط ارتفع منذ نهاية «كوفيد - 19» في عام 2020 من نحو 91.350 مليون برميل يومياً إلى 103.840 مليون برميل يومياً في عام 2024.
اللافت للنظر في زيادة الطلب على النفط هذه خلال المدة الأخيرة تعود إلى ارتفاع الطلب المستمر من أقطار «أوبك» نفسها والدول الآسيوية والأفريقية وأميركا اللاتينية. وهذا لا يدل على ارتفاع عدد السكان في هذه الدول النامية فقط، بل على ظاهرة أخرى مستمرة ومتزايدة، خصوصاً مع النمو الكبير في قطاع الصادرات الصناعية والخدمات للدول النامية الكبرى، وهي تتمثل في ارتفاع مستوى المعيشة لفئات واسعة من مجتمعات هذه الدول، كما في الصين والهند والبرازيل وأقطار الخليج العربي.
السؤال: هل سيستمر ازدياد استهلاك النفط، كما هو الآن، أم ستنخفض نسبته في سلة الطاقة المستقبلية؟
الواضح من تجارب السنوات الماضية هو أنه من الصعب جداً الاستغناء عن النفط والغاز بحلول منتصف القرن، خصوصاً مع زيادة الطلب المستمرة لهما، فاستبدال الطاقات المستدامة بهما يتطلب استثمارات ضخمة، وتقدماً علمياً واسعاً، ليس أقله توفير الخزانات الضرورية لوقود الطاقات المستدامة.
كما أنه من الواضح أيضاً أن التوقعات أعلاه التي تتبناها الدول المصدرة للنفط، مبنية على فرضيات اجتماعية/اقتصادية، مثل الازدياد الكبير في عدد سكان العالم سنوياً، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى المعيشة لدى فئات واسعة في الدول النامية. كما تتبنى الدول المصدرة فرضيات أخرى، وهي أن العالم اليوم وغداً، وللمرة الأولى، سيعتمد على مجموعة من مصادر وقود الطاقة، الأمر الذي سيتطلب من كل من الوقود المستعملة التنافس السعري مع الوقود الأخرى. كما أن تعدد أنواع وقود الطاقة من جهة والمطالب الدولية لتقليص الانحباس الحراري، يدعو إلى التنافس في تقليص الانبعاثات. هنا ستكمن المنافسة.