: آخر تحديث

العودة إلى فاس

1
2
3

كان غياب محمد بن عيسى كلمة سرّه الأخيرة. لم يكن أحد منا يعرف أن محبته ممتدة عبر العالم العربي، مشرقاً ومغرباً. عمّت مراثيه أوساط الكتاب والأدباء والدبلوماسيين الذين لا صفة لهم سوى أنهم من خلان تلك الشخصية السمحاء. وقد شعرت وأنا أقرأ تلك المراثي بتقصير شديد، وقد كان عليّ، على الأقل، أن أكتب غير مرة عنه، ولن يكفي ذلك لتأدية واجب أو إبداء تقدير. كنت ألبي دعوته إلى مهرجان أصيلة كل عام، وفي ذلك الملتقى، كنا جميعاً نتعرف إلى طبقة من الناس والمثقفين، يتحولون في المدينة إلى قبيلة يرعاها ويتعهدها دائماً بأرقى المشاعر.

كل مدينة في المغرب مهرجان، والمدينة التي تزورها برفقة «سي بن عيسى» يتضاعف مهرجانها، ويزداد ألواناً وألقاً. لم أتعرف برفقة سي محمد فقط إلى أصيلة، وطنجة، بل لطالما أعطاني من وقته للتمتع بالأحياء القديمة والتقاليد التاريخية في الرباط، وفاس، والدار البيضاء، وأرز إفران.

كل الرحلات مع سي محمد كانت لا تُنسى، ومن الصعب التمييز بينها على الإطلاق. وفي كثير من الأسى قللت تلبية دعوة سي محمد في الآونة الأخيرة، متذرعاً بأسباب بعضها واهم، وبعضها لا صدق له. وكان السبب الحقيقي التعب من السفر وكثرة المحطات. وعندما كلمني أخيراً ليسألني إن كنت سأحضر هذا العام، اعتذرت وقلت له: «ما رأيك أن نلتقي عندما تأتي إلى أبوظبي؟». قال: «فليكن. ولكن لذلك لن تقابل (الجماعة)». وضحكت ملء صوتي قائلاً: «أرجو أن تتولى الاعتذار عني».

و«الجماعة» كانت رئيس المخابرات في المغرب. وعندما أراد محمد أن يسهل الأمر عليّ، قال: «رئيس المخابرات عندنا من أكثر القراء تذوقاً وثقافة، وهو يحدثني عن الزاوية دائماً».

من أجمل الأحداث مع سي بن عيسى يوم دعاني مع أصدقاء له إلى القيام بجولة في مدينة فاس. في تلك الزيارة شعرت بأنني تعرفت إلى أعماق المغرب أكثر من أي مرة أخرى. ليس فقط لأن سي بن عيسى كان الدليل، بل لأن للمدينة حقاً سحراً يكشف عن نفسه، تاركاً لك تتنشق العبق التاريخي وصفاء الحياة المغربية. لكل مدينة في المغرب كاتب أوروبي يدوّن علاماتها ومرافقها وعلاقاتها بالعراقة التاريخية.

منذ أيام كشفت من هي كاتبة فاس. واستعدت معها تلك الرحلة الجميلة مع سي محمد وثقافاته ورؤيته للتاريخ وللحداثة. إنها الكاتبة الأميركية - الكوبية - الفرنسية أناييس نين التي كانت جزءاً من الحياة الأدبية في القرن الماضي. ولست أدري إن كان سي بن عيسى قد قرأ «نين» وانطباعاتها عن فاس أو لا. لكن للذين لم يقرأوا تلك القطعة الأدبية الجميلة، سوف أقدم هذا النموذج الجميل.

... إلى اللقاء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد