: آخر تحديث

عن الحرب والسلم

2
2
2

ثمة تحليلات وتوقعات لا حصر لها في شأن الحرب الإسرائيلية - الإيرانية ومعناها ووجهتها. فما هي هذه الحرب في حقيقتها العميقة؟ وإلى أين هي ذاهبة في نهاية المطاف بعد وقف إطلاق النار الذي نجح دونالد ترمب فجأةً في إرسائه؟

سؤال مصيري كبير، لا بد من النظر إليه في ضوء تاريخين أساسيين؛ الثورة الخمينية عام 1979، و«طوفان الأقصى» عام 2023.

تخلّى الغرب عن حليفه الشاه وسهّل قيام النظام الإسلامي الإيراني عام 1979، علّ هذا السدّ الديني يوقف التمدّد الشيوعي السوفياتي في آسيا والشرق الأوسط. لكن بعد أقلّ من عقد من الزمن انهار الاتحاد السوفياتي من تلقائه، ومعه معسكره الاشتراكي، وتعاظمت قوة النظام الإسلامي أكثر فأكثر في طموحاته العسكرية الاستراتيجية، وبرنامجه النووي الواسع، وامتداداته المسلّحة في المجتمعات المذهبية المتعاطفة معه في دول المنطقة، مستفيداً إلى أبعد الحدود من نتائج الحرب الأميركية على العراق وأفغانستان، ومن تناقضات السياسات الأميركية والأوروبية ومتاهاتها، ومن التعاون العسكري والتكنولوجي والاقتصادي الوثيق، سرّاً وعلناً، مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، ومواقع وشركات كثيرة أخرى في أنحاء العالم. ونكاد ننسى الآن، في مهبّ العواصف، حرب 1980 العراقية - الإيرانية الضروس، التي دامت 8 سنوات، وسقط خلالها من الجانبين مليون قتيل عسكري ومدني، وانتهت بما يشبه التعادل في بحر من الآلام والدمار. بعدها، أزاحت أميركا النظام العراقي من وجه إيران، وفتحت لها بلاد الرافدين.

واستمرت الثورة الخمينية في توسيع طموحاتها الاستراتيجية في الداخل وعلى مستوى الأذرع، تحت شعار تحرير القدس وفلسطين القادر على الاستقطاب، وسط حروب محدودة ومناوشات وحصار وعقوبات واغتيالات، ظنّ الغرب وظنّت الدولة العبرية خلالها أن بإمكانها كسب المواجهة على المدى البعيد بالنقاط، من دون الحاجة إلى اهتزازات ضخمة. مع ذلك، كانت إسرائيل من جهة، وإيران وأذرعها من جهة أخرى، تتحضّر سرّاً لـ«المنازلة الكبرى» إذا وقعت.

لكن «طوفان الأقصى» الذي فاجأ، خريف 2023، الدولة العبرية والعالم، «قلب الطاولة» رأساً على عقب بكل مفاهيمها التكتيكية والاستراتيجية. لم يعد من شيء بعده على ما كان عليه قبله. والأخطر فيه أن الاتجاه المتشدد في إسرائيل وأميركا والغرب بات يرى أن الحلّ الوحيد يكمن في نزع طاقة إيران النووية، وتجريدها من سلاحها الاستراتيجي، وأبعد من ذلك، إسقاط نظامها الإسلامي، مهما كانت النتائج الجيو سياسية المترتبة عليه. هذا هو المضمون الحقيقي للحرب الإسرائيلية - الإيرانية الراهنة، وهنا تكمن خطورتها.

لم يكن بالإمكان الوصول بقفزة واحدة إلى هذه الحرب. جرى التمهيد لها على مراحل من قبل التحالف الإسرائيلي الغربي، على مدى عام ونصف عام، عبر تفتيت غزة وإنهاك الذراع الفلسطينية فيها، ثم ضرب الذراع اللبنانية وإنهاكها، وإضعاف الذراع العراقية وشلّ حركتها، والتصدّي على نطاق واسع للذراع اليمنية، ومفاجأة سقوط النظام السوري.

معظم ذلك بعنف شديد أثار خصوصاً في حرب غزة استهجان العالم أجمع... وأخيراً، حلّ الهجوم الكبير الحالي على إيران، الذي هو الغاية الأولى والأخيرة.

لا تواجه الثورة الإيرانية في هذه الحرب الغرب المعتدل، الذي يأخذ ويعطي، ويعمل على الحلول المؤقتة القليلة التكلفة، وينأى بنفسه عن الحسم المرّ، ويعطي الأولوية لمشاريع شركاته ومصالحه المباشرة، ما يتقّن النظام الإيراني التعامل معه وممارسة براعة المناورة في محاورته، غرب أوباما وبايدن وهاريس وماكرون وموظفي وموظفات «المفوّضية الأوروبية» في بروكسل.

فخطورة الأمر أن إيران تواجه في هذه الحرب الغرب البالغ التشدّد والمكيافيلية، المتمثل في قيادة نتنياهو للدولة العبرية وترمب للولايات المتحدة، وهما على موجة واحدة وفي حرب واحدة منذ البداية.

كانت لإيران مصلحة حيوية في وقف القتال لمعالجة الجراح البليغة التي أصيبت بها، ولمعاناتها من عزلتها الدولية. وكانت للدولة العبرية أيضاً مصلحة كبيرة في ذلك بعد معاناة شعبها من وطأة الصواريخ الإيرانية واهتزاز شعوره بالأمان والثغرات في أنظمة دفاعها الجوي. وهو لترمب انتصار بارز.

لكن هل هو وقف لإطلاق النار أم مسار إلى نهاية الحرب؟ يتوقف كل شيء على خيارات النظام الإيراني المقبلة. هل يُبقي على التوجهات العسكرية والاستراتيجية الداخلية والإقليمية التي سار في هديها منذ قيامه قبل نصف قرن، منتظراً أفول عهد ترمب ونتنياهو ذات يوم، أم يعود إلى داخل حدوده ويسلك مسار التنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي؟ وهل هو قادرٌ بطبيعتـــه على مثل هذا التــــــحوّل؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد