: آخر تحديث

الدرسان الكبيران

5
3
4

ما الاستنتاجات النهائية التي تطالعنا في مرحلة التحوّل التي يعيشها الشرق الأوسط، من عملية «طوفان الأقصى» إلى الحرب الإسرائيلية - الإيرانية الدائرة رحاها الآن؟

فضلاً عن الاستنتاجات السوسيولوجية الكبرى التي تقول إن الثابت الوحيد في التاريخ المجتمعي هو التحوّل، وإن الحاضر، كل حاضر، هو أكثر هشاشة بكثير مما يبدو عليه، وإن كل تغيير هو بالضرورة نتاج تلاقي العوامل الداخلية والعوامل الخارجية في ظرف معيّن، يطالعنا الدرسان الاستراتيجيان الكبيران التاليان:

الدرس الأوّل، عن الصراع بين التكنولوجيا والديموغرافيا. كنت أخشى، في كتاباتٍ لي قبل عشرين عاماً، أن يصطدم النمو السكاني البالغ، على المدى البعيد، بالسلاح النووي. لكن ما حدث في الحقيقة كان أمراً آخر. لقد رافق تصدير الثورة الخمينية إلى دول المنطقة خلال نصف القرن المنصرم، تحوّلٌّ بارز، من التكاثر السكّاني الكمّي إلى الارتقاء العسكري النوعيّ، إنْ في المركز الإيراني أم في أذرعه في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزّة. باتت هذه القوى الصاعدة، تحت شعار تحرير فلسطين ورفض الغرب، من القوّة الحربية بمكان، بحيث شكّلت أمراً واقعاً هائلاً، وصل إلى ذروته في «طوفان الأقصى» الذي هزّ أركان الدولة العبرية. كان يُخشى أن تصطدم هذه القوة الصاعدة، في شكلٍ ما، بالسلاح النووي الإسرائيلي، كسبيل مواجهة أوحد. لكنّ ذلك لم يحدث. برزت ظاهرة أخرى مفاجئة، لم تتبيّنها التوقّعات: ظهر فارق نوعيّ بالغ بين التطوّر التكنولوجي العسكري الإيراني المستند إلى تقنيات القرن العشرين، من جهة، والتطوّر التكنولوجي الإسرائيلي - الغربي المرتكز على تقنيات القرن الحادي والعشرين المتقدّمة، من جهة أخرى. وهذا الفارق النوعي الكبير هو الذي أتاح للجانب الإسرائيلي - الغربي إضعاف الأذرع الإيرانية في المنطقة وشلّ فاعليتها. وهو الذي تتوسّله الدولة العبرية الآن في حربها الشاملة على إيران.

الدرس الثاني، عن خطورة الرهان على جماعة مذهبية محدّدة في مجتمع الجماعات، الذي تتشكّل منه دول الشرق الأوسط، التي ما زالت بعيدة جداً عن مجتمع الأفراد - المواطنين. كذلك خطورة الرهان على التنظيم التسلطي القمعي لتحقيق الأهداف طويلة الأمد. وقد وقع النظام الإسلامي الإيراني في هذين الخطأين اللذين أوصلاه في نهاية المطاف إلى الحال الراهنة. لقد راهنت الثورة الخمينية في نشرها دعوتها على تأليب الجماعات المذهبية المتعاطفة معها في دول المنطقة، وتنظيمها وتسليحها وتمويلها. وعلى الرغم من حدوث ذلك تحت شعار تحرير القدس وفلسطين، فقد شعرت الجماعات الأخرى في هذه البلدان بأن التأليب الفئوي المسلّح، الخارج عن الدولة الوطنية، إنما يهدف إلى تطويقها وإخضاعها ووضعها في مرتبة دنيا داخل مجتمعاتها، مما أدّى إلى تأجيج التناقضات الداخلية، وإلى حالة الهشاشة والارتياب والخوف في هذه المجتمعات، فضلاً عن تفكّك دولها، وانتشار الفساد والفقر والعوز فيها، ضارباً مناعتها الوطنية في كل جوانبها.

والتقى هذا المنحى بمنحى آخر صبّ في الاتجاه نفسه. فالتأليب المذهبي الذي حدث، جرى عبر تنظيمات آيديولوجية دينية صارمة تَدين بالولاء المطلق للزعيم الأعلى الأوحد. ولا تفسح هذه التنظيمات المجال لأي رأي آخر داخل بيئتها، مهما كان معزولاً، معتمدةً وسائل الترهيب والتخوين والقمع. وقد أدّت هذه الأحادية المفرطة بدورها إلى تفشي استغلال النفوذ ضمن هذه التنظيمات، وانتشار روحيّة الإفادة والاستفادة، والطمع بمصادر ربح غير مشروعة، وتناقضات المصالح، والنزاعات الشخصية، والضغائن المكبوتة، مما سهّل على أجهزة الدولة العبرية التغلغل الخطير فيها.

وقد كان للاختراقات الاستخبارية العبرية دورها كبير الفاعلية، إلى جانب التفوّق التكنولوجي العسكري الإسرائيلي - الغربي، في إضعاف المحور الإيراني في المنطقة وتفكيكه، إنْ على مستوى الأذرع، كما يحدث منذ صيف 2024، أم على مستوى المركز، كما يجري الآن.

في ضوء هذين الدرسين الاستراتيجيين الكبيرين، يبقى التساؤل حول حقيقة موقف الشرق الصيني والروسي من احتمال انهيار المحور الإيراني في المنطقة، كون الشرق كان على الدوام هو الحليف السرّي أو العلني لهذا المحور، وكانت له إسهاماته الدائمة في تخطي العقوبات الأميركية على طهران للتخفيف من عزلتها الاقتصادية والسياسية، كما الإسهام الفعّال في تطوير قدراتها النوعية، إنْ على مستوى التكنولوجيات النووية، أم في مجال الصواريخ والمسيّرات.

حتى الآن لم يُبدِ الشرق الصيني والروسي ردود فعل بارزة على تراجع المحور الإيراني. هل يبقى على هذه الحال إذا اشتدّ انهيار المحور، أم يحاول رسم تسوية ما، تكون هي خطّه الأحمر الأخير؟ وهل ما زال قادراً على ذلك؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد