: آخر تحديث

ترامب والدولة.. وجهاً لوجه

5
5
4

محمد خالد الأزعر

إذا لم يجابه دونالد ترامب، بما يكفي من الكوابح والضوابط، لا سيما على صعيد التقاليد المؤسساتية والتوازن بين السلطات، فمن المحتمل أن لا تنتهي الولاية الرئاسية، إلا وقد طال التغير السلبي بعضاً من أهم معالم استقرار الاجتماع السياسي الأمريكي داخلياً، ومثل ذلك بالنسبة لمكانة الدولة الأمريكية وعلاقاتها ومستوى الثقة في كلمتها خارجياً.

على مدار سنوات ولايته الأولى، لم يكف ترامب عن التلميح إلى أن دولته بحاجة إلى ما يشبه الانتفاض ضد الرتابة التي وسمت مطولاً أنماط تعاملها مع كثير من قضايا الداخل الحيوية. وخص بالذكر حقول الصحة والضمان الاجتماعي والتعليم العالي والبحث العلمي، والضرائب والمال والأعمال والتوظيف والزراعة ونفقات الدفاع والصناعات المدنية والعسكرية المتقدمة، وقبل ذلك وبعده شروط الإقامة والتجنس واستقبال المهاجرين واللاجئين.. وبالتوازي مع إبداء تأففه مما اعتبرها أوضاعاً داخلية بائسة، ذهب إلى أن البلاد تعاني خارجياً من ابتزاز الأصدقاء والحلفاء وجرأة الخصوم والمنافسين.. وكانت المحصلة في تقديره أن الولايات المتحدة مهددة في عظمتها، وعليها أن تستعيد هذه العظمة.. والأهم أنه أضفى على نفسه صفة المخلص الذي ساقه القدر لأداء هذه المهمة.

الانطلاق على أرضية هذه التعميمات، المستقاة من منظورات ترامب لحالة الدولة الأمريكية أثناء ولايته الأولى، وتصرفاته وما عبر عنه من انتقادات وسخريات لأداء الدولة خلال ولاية غريمه الديمقراطي بايدن، ثم وعود حملته الانتخابية للولاية الحالية، يقدم تفسيراً للإجراءات العاصفة التي اضطلع بها فور تسيّده البيت الأبيض.

السرعة القياسية التي غلفت قراراته توحي بأن ترامب دخل في سباق مع الزمن لتحقيق مراداته ورؤاه التي أضمرها وأعلنها منذ وطأت أقدامه عالم السياسة.. غير أن هذا الاستعجال بدا وكأنه جاء على حساب الجودة وحسن التعامل مع كثير قضايا تتطلب التروي ولا تفلح معها أساليب الصدمة والهرولة.

وبالنسبة لبعض هذه القضايا، ظهرت هذه النقيصة بذات السرعة التي اتخذت بها القرارات. ومن ذلك تعليق تطبيق عدد من قرارات رفع التعريفات الجمركية تجاه الواردات الدولية، والقبول بمبدأ التفاوض مع بكين وشركاء تجاريين آخرين، والاضطرار إلى الطأطأة أمام الاعتراضات الصلبة للمؤسسة القضائية، على بعض المواقف والقرارات غير الدستورية، كتلك الموصولة بطرد مقيمين أو طلاب أجانب. ولعل المثل الأبرز في سياق اكتشاف ترامب لغلوه في تقدير إمكاناته يتعلق بالتعقيدات التي حالت ولا تزال دون إنجاز وعده بتسوية مسألة أوكرانيا في يوم واحد فور تسيده البيت الأبيض.. وقال مثل ذلك عن إقرار السلم في غزة، وضم غرانادا والسيطرة على قناة بنما وتحويل كندا إلى ولاية أمريكية!

قد لا يصح التشكيك في توجه ترامب حول إنقاذ العظمة الأمريكية، بيد أنه من الصحيح والمنطقي تماماً مقاربة هذا التوجه من الناحية التطبيقية وفق الاعتقاد بأن الطريق إلى المشاكل يكون أحياناً مفروشاً بالنوايا الحسنة. القراءة المعمقة لسياسات ترامب توجب الحذر من وقوعه تحت طائلة هذا الاعتقاد.. ظاهر الكثير من هذه السياسات يدعونا لاستنتاج أن الرجل يود أن يسجل باسمه أو باسم بمرحلته وزعامته تاريخاً جديداً.. وهذا مرتقى صعب إن لم يكن مستحيلاً في دولة بهذا الحجم والمقام.. ولنا أن نلحظ كيف أن جانباً معتبراً من الإجراءات التي يظنها تمهد لعودة العظمة تتعارض كلياً في التحليل النهائي مع إنجاز هذه الغاية الحميدة.

من تجليات هذا التناقض، نزوع كثير من الأكاديميين والعلماء إلى مغادرة مواقعهم في الجامعات ومراكز البحث، جراء استشعار التضييق عليهم وتقييد حريات الرأي والبحث العلمي، واستخدام التمويل وسيلة للي الألسنة والعقول. والمدهش أن قوى أخرى تلقفت هذا المشهد بشيء من الانتهازية المشروعة، حيث أطلقت الجامعات الأوروبية والكندية مبادرات مغرية لاستقطاب هؤلاء.. وعليه فإن ترامب ينحو إلى الانتقاص من أسباب عظمة بلاده وتغذية أسباب عظمة الآخرين من حيث أراد العكس.

رب مجادل بأنه من المبكر إصدار تقييم قاطع بشأن المنافع والأضرار.. لكن هناك من الشواهد الآن ما يؤكد بأن استمرار انطلاق حبل الرجل على غاربه، وعدم تفعيل آليات الضبط وتصحيح المسار، سيفضي بعد 4 أعوام إلى ترجيح كفة الأضرار والخسائر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد