: آخر تحديث

كعب دائر إلكتروني

8
6
6

أسامة يماني

صديق لي أطلق على البيروقراطية التكنولوجية اسم «كعب رقمي» أو «إلكتروني». حيث اعتاد الناس في الستينيات وما بعدها إطلاق جملة «كعب دائر» على البيروقراطية البغيضة التي يعاني منها المراجع، بينما لا يلتفت الموظف الإداري إليها أو لمعاناة هذا المواطن أو المراجع الذي لا حول له ولا قوة.

وبالرغم من النقلة النوعية التي تم تحقيقها، والكثير من المحاسن والفوائد العظيمة للتقنية، إلا أن هذه الرقمية أفرزت نوعاً جديداً من البيروقراطية الحديثة، تجسدت اليوم في معاناة من نوع آخر. فقد دخلت التكنولوجيا والرقمنة في معظم جوانب الحياة الإدارية، مما أدى إلى ظهور مفهوم «الكعب الرقمي» أو «الإلكتروني». فبدلاً من التنقل بين المكاتب والمراجعين، أصبح الناس اليوم يتنقلون بين المنصات الإلكترونية والبوابات الرقمية، وبهذا نجد أن المعاناة تتكرر وتلاحقنا، لأن الحواجز لم تعد مادية فقط، بل تحولت إلى عوائق تقنية وإجرائية تفرضها أنظمة إلكترونية معقدة أو مواقع غير فعالة.

يعاني المواطن من صعوبة التكيّف مع هذه الأنظمة الرقمية المتطورة، التي قد تحتاج إلى مهارات تقنية لا يمتلكها الجميع. إلى جانب ذلك، فإن الأخطاء التقنية والتأخير في عمليات المصادقة والمعاملة تعكس صورة جديدة من البيروقراطية، تتطلب صبراً ومتابعة مستمرة.

وبالرغم من أن الرقمنة تهدف إلى تحسين الكفاءة وتسريع الإجراءات، إلا أن التحول الرقمي لا يزال يواجه تحديات، ويحتاج إلى تعزيز البنية التحتية التقنية، وتكثيف التدريب الكافي للموظفين والمستخدمين، وتطوير الدعم الفني الفوري. لذا، فإن التحول الرقمي السريع يحتاج إلى خطط إستراتيجية مُحكمة تضمن الانتقال السلس والفعال للجميع، مما يخفف من مشاكل «الكعب الرقمي» ويعيد الثقة إلى النظام الإداري بوجهه الجديد.

على سبيل المثال يواجه المواطنون عدة مشاكل تقنية عند متابعة التراخيص والإجراءات مع بعض الأمانات، ومن أبرز هذه المشاكل:

تعطل النظام الإلكتروني أو انقطاع الخدمة، الأمر الذي يتعذر معه الدخول على منصة «بلدي» أو التطبيقات التابعة للأمانة بسبب الصيانة أو الأعطال الفنية. وأحياناً تكون الخوادم (السيرفرات) غير قادرة على تحمّل الضغط الكبير من المستخدمين. مما يؤدي إلى صعوبة في إتمام المعاملات إلكترونياً، وخاصة في ظل تعقيد الإجراءات أو عدم وضوح الخطوات، مما يضطر المراجع لزيارة الفرع شخصياً. علماً أن بعض الخدمات غير متوفرة عبر المنصة وتحتاج إلى مراجعة مباشرة. ناهيك عن مشاكل في التوثيق أو التسجيل وصعوبة في ربط الهوية الوطنية أو حساب «أبشر» بالنظام. تُضاف إلى ذلك أخطاء في البيانات المطلوبة أو تعارض المعلومات المسجَّلة. مما يفاقم ويزيد من العناء «الكعب الرقمي الدائر» فما بالك إذا كان ذلك كله مصحوباً ببطء في معالجة الطلبات وتأخر في إصدار التراخيص أو الموافقات دون إشعار واضح بالأسباب. وعدم وجود تحديثات لحالة الطلب (مثل: «قيد المراجعة» لفترات طويلة). وعندما يصل الكعب إلى منتهاه يُواجَه المراجع بمشاكل في الدفع الإلكتروني وتعطل بوابة الدفع (مثل: سداد) أو رفض المعاملة دون سبب واضح. حتى لو كان المراجع من أهل الحظ الوفير فسوف يصطدم بعدم استلام النظام لإشعار الدفع رغم اكتماله. والشيء الذي يزيد من الطين بلة -كما جاء في الأمثال- ضعف الدعم الفني والرد على الاستفسارات وتأخر الرد على بلاغات الأعطال عبر تويتر أو مركز الاتصال (٩٢٠٠٠٠٩٩٥). وعدم وضوح آلية التظلم أو متابعة الشكاوى التقنية.

هكذا يتحوّل «الكعب الدائر» التقليدي إلى «كعب رقمي» يعيد إنتاج المعاناة بوجه جديد، حيث تختفي الطوابير الورقية لتحلّ مكانها طوابير افتراضية، وتتبدّل الأوراق المفقودة بأخطاء نظامية غامضة. ورغم أن الرقمنة جاءت حاملة وعوداً بالسهولة والشفافية، إلا أنها -بدون بنية تحتية قوية ودعم فعّال- قد تحوّلت إلى عائق تقني يضيف طبقة جديدة من التعقيد. فالتحدي الحقيقي ليس في التحوّل الرقمي نفسه، بل في جعله إنسانياً، يُراعي محدودية المستخدم ويُحوّل السرعة النظرية إلى سلاسة عملية. وإلّا، فسنظل ندور في حلقة مفرغة: من «كعب» ورقي إلى «كعب إلكتروني»، دون أن نصل إلى لبّ الإصلاح الإداري الحقيقي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد