معَ أنَّ اهتمامي منصبٌّ على تتبُّع تسلل المودودية إلى دمشقَ وإلى القاهرة في مقالات سابقة وفي هذا المقال، فإنَّ هذا الأمر لا يمنع من معرفة كيف تسللت المودودية إلى بلدين من بلدان شمال أفريقيا، هما المغرب والجزائر.
في يوم الجمعة 26 رمضان 1378 هـ / 22 يوليو (تموز) 1949 م، يقول مسعود الندوي: «تلقيت في المساء العدد الجديد من مجلة (لسان الدين) التي كانت تصدر تحت إدارة الهلالي في تطوان، ويديرها الآن العالم الأديب المراكشي المشهور عبد الله كنون، وحين فتحت المجلة وقع نظري على هذا العنوان: (دعوة من الهند)، وعرفت أن المحرر المحترم علق تعليقاً طيباً على مطبوعاتنا الثلاث. الحمد لله لقد أدرك فحوى دعوتنا ومفهومها ببصيرته النافذة وذكائه من أول وهلة، فأيد دعوتنا بحب خالص، وثقة مؤكدة. ونشرت مجلة (لسان الدين) أيضاً بعض الصفحات من (منهاج الانقلاب الإسلامي)، كمثال لما أورده المحرر، وأثنى على المضمون كثيراً، ورأى أنه لا يوجد قبل المودودي من تناول هذا الموضوع بالتأليف والكتابة». أما العدد فهو الجزء الخامس للسنة الثانية من صدور تلك المجلة. تلقى مسعود هذا العدد من هذه المجلة وهو في بغداد، وكان قد بعث إليها أيضاً كتب المودودي الثلاثة من العراق. المحرر المحترم هو عبد الله كنون.
في كتابه «شهور في ديار العرب» الذي دون فيه يوميات رحلته المودودية، جرى ذكر الجزائر في أكثر من موضوع، لكن لم يكن من بينها ما بعث إليها من كتب المودودي. فذهبت إلى مصدر آخر، هو مقال مولود عويمر «مسعود عالم الندوي والتواصل مع الجزائر»، للاستفادة منه في هذا الجانب.
ومما ذكره مولود عويمر في هذا الجانب أن مسعود الندوي كان يراسل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ويبعث إلى «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» كتب المودودي. وأورد كلاماً للشيخ الإبراهيمي يثني فيه ثناء جزلاً على ترجمات مسعود الندوي لكتب المودودي إلى العربية.
وقد أورد مولود عويمر في ختام مقاله معلومة، قال فيها: «قرر الأستاذ مسعود عالم الندوي في سنة 1954 القيام برحلة ثانية إلى العالم العربي لزيارة الدول التي لم يزرها في رحلته الأولى سنة 1949 مثل بلاد المغرب العربي، غير أن قضاء الله سبق إرادة العبد، فقد توفى في مدينة كراتشي في 16 مارس (آذار) 1954، وهو يستعد للسفر».
في المقال السابق، كنت أشرت إلى الخيط الأول في تسلل المودودية إلى دمشق، المتمثل في تقديم تعريفات بـ3 من كتب المودودي المترجمة إلى العربية في مجلة «التمدن الإسلامي»، وفي مجلة «المجمع العلمي العربي» عام 1949، وليس لديّ تفصيل معلوماتي عن الكيفية التي اختارت بها «دار العروبة للدعوة الإسلامية» بلاهور «دار الفكر» الدمشقية لنشر كتب المودودي التي قامت هي بتعريبها. وبتعبير آخر، لا أعلم من هو – أو من هم – تحديداً الذين اختاروا «دار الفكر» للقيام بهذه المهمة، والذين لا بد أن يكونوا من أصحاب التوجه الإسلامي في سوريا أو من «جماعة الإخوان المسلمين» فيها تحديداً. فـ«دار الفكر» الدمشقية ذات توجه إسلامي «إخواني».
هذه الدار كانت تنشر رسائل المودودي المعربة مسلسلة تحت عنوانين، هما: «ذخائر الفكر الإسلامي» و«سلسلة مطبوعات دار العروبة».
«دار العروبة» هذه هي «دار العروبة للدعوة الإسلامية» بلاهور. لا أعلم إن كانت «دار الفكر» و«مكتبة الشباب المسلم» بدأتا في دمشق نشر رسائل المودودي المعرّبة عام 1950 أم عام 1951. فالعام الأخير هو العام الذي تيسر لي أن أرى رسالة من رسائل المودودي صدرت فيه.
«مكتبة الشباب المسلم» بدمشق هي التي كنت في المقال ما قبل السابق قلت عنها إنها كانت تنشر تحت مظلة «دار الفكر»، وهي تابعة مباشرة لـ«دار العروبة للدعوة الإسلامية» بلاهور.
الذي دعاني إلى القول إنها تابعة لـ«دار العروبة للدعوة الإسلامية» مباشرة بيان موجه باسمها إلى الناشرين. ففي رسالة المودودي «نظرية الإسلام الخلقية» الصادرة عام 1956، منشور هذا البيان. وهذا نصّه:
«وقع إلينا أن بعض الناشرين في البلاد العربية يرغبون في تجديد طبع ما سبق نشره من كتبنا ورسائلنا، بل إن نفراً منهم أقدموا على ذلك فعلاً دون علم (دار العروبة). والرجاء ممن يرغبون في ذلك ألّا يقدموا على الطبع ما لم يؤذنوا (دار العروبة)، وينالوا موافقتها على شرائط معينة. وذلك بالاتصال بمكتبة الشباب المسلم (دمشق – ص.ب 556). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين».
وفي هذه الرسالة وفي رسائل أخرى، المثبت في بياناتها أن الناشر «مكتبة الشباب المسلم»، ومثبت فيها أيضاً، «حقوق الطبع محفوظة لدار العروبة».
وهذا البيان يطلعنا على أن رسائل المودودي أو كتبه كانت في ذلك التاريخ وقبله قليلاً كانت تشهد إقبالاً كبيراً عليها من قبل قرّاء الدينيات المعاصرة والقديمة، ما حفّز بعض الناشرين لإعادة نشرها من أجل الكسب التجاري.
مع أني لم أنتهِ من الحديث عن «دار الفكر» الدمشقية، فإني سأنتقل الآن إلى تبيان كيف تسلل الفكر المودودي إلى القاهرة، ثم أعود للحديث عن «دار الفكر» الدمشقية مرة أخرى.
عبد الله العقيل الذي هو من شبان «الإخوان المسلمين» الذين استقبلوا مسعود الندوي عند قدومه مع مساعده محمد عاصم حداد إلى العراق وفّر لنا هذا التبيان.
يقول في حديثه عن مسعود الندوي في كتابه «من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة»: «وحين ذهبت إلى مصر للدراسة الجامعية في أواخر سنة 1368 – 1949، أخذت من تلك الكتب، وأطلعت عليها إخواننا الزملاء في الدراسة، فأعجبوا بها غاية الإعجاب وعدّوها ظهيراً لفكر (الإخوان المسلمين) وكثيرة الشبه – إلى حد كبير – بما كتبه الأستاذ حسن البنا في رسائله الدعوية والحركية، وتحمسوا لطباعتها بمصر، وقام الأخ عبد العزيز السيسي – رحمه الله – بطباعتها عن طريق مكتبة الشباب المسلم بالحلمية الجديدة بالقاهرة، وتم توزيعها بأعداد كبيرة في أوساط (الإخوان) والشباب المثقف بجامعات مصر».
من كتب المودودي التي صحبها معه إلى مصر، كما عددها هو: «الدين القيم، وشهادة الحق، ومنهاج الانقلاب الإسلامي، ونظرية الإسلام السياسية، والإسلام والجاهلية، ونظام الحياة في الإسلام، ومعضلات الاقتصاد وحلّها في الإسلام... إلخ». دراسة عبد الله العقيل الجامعية في مصر كانت في الأزهر في كلية الشريعة، وقد حصل على شهادة العالمية من الأزهر عام 1954.
عبد العزيز السيسي من أعضاء «لجنة الشباب المسلم». وهذه اللجنة فصيل فكري من «الإخوان المسلمين» من طلاب الجامعات تأسس في عام 1947، وكان يضم في هذا العام 9 أشخاص. عبد العزيز السيسي هو منشئ مكتبة «البيان» الإسلامية في الكويت. توفي بتاريخ 7 يونيو 1971 إثر نوبة قلبية في بيروت، وكان لهذه المكتبة فرع في بيروت وفي إسطنبول.
«مكتبة الشباب المسلم» هي جزء من «لجنة الشباب المسلم». وهذه اللجنة عبارة عن مكتبة ودار نشر وتوزيع، ولم تكن تطبع كتب المودودي، فهي «الناشر» لها فقط. الجهة التي كانت تطبعها هي «المطبعة والمكتبة السلفية» التي كان يملكها محب الدين الخطيب.
الناشر «لجنة الشباب المسلم» تولى نشر وتوزيع بعض رسائل المودودي المعربة في القاهرة في مطلع الخمسينات الميلادية. وللحديث بقية.