شهدت بريطانيا هذا الأسبوع ما أجمعت وسائل الإعلام وأغلب المحللين والمعلقين على أنه «زلزال سياسي» بعد نتائج الانتخابات المحلية الجزئية في عدة مناطق بوسط البلاد. والخلاصة التي رددها الجميع تقريباً أن «الساحة السياسية البريطانية لم تعد كما كانت، ولن تعود».
رغم أن الانتخابات كانت لعدد من المجالس المحلية (البلدية) وحفنة من مناصب العمدة ودائرة برلمانية واحدة تشهد انتخابات مبكرة نتيجة استقالة النائب العمالي عنها، إلا أنها تعد نموذجاً لسيناريو أي انتخابات قادمة في بريطانيا.
أما سبب الهزة القوية غير المسبوقة فهي فوز حزب، كان هامشياً حتى يوم الخميس الماضي، معادياً للمؤسسة بتوجه يميني متطرف بالأغلبية وبالمقعد البرلماني الوحيد في تلك الانتخابات. ولطالما ردد نايجل فاراج، المتشدد اليميني القريب من دونالد ترامب، رئيس ذلك الحزب المسمى «الإصلاح» بأنه سيصبح يوماً رئيس وزراء بريطانيا. والآن بعد تلك النتائج لم يعد ذلك اليوم مجرد أمنية.
صحيح أن اليمين واليمين المتطرف يتقدم في أغلب دول أوروبا، وزاد من زخم صعوده وجود إدارة ترامب في واشنطن، لكن بريطانيا تحديداً ظلت استثناءً من ذلك التوجه. ليس لأنها من أقدم الديمقراطيات الغربية، ولا حتى لأنها تقع في منزلة وسط بين أوروبا وأمريكا، وإنما لأن السياسة البريطانية «مؤسساتية» إلى حد كبير.
تلك السمة التقليدية هي التي أصابتها نتائج الانتخابات المحلية الجزئية الأخيرة في مقتل. فقد فاز حزب الإصلاح اليميني المتطرف بأكثر من نصف مقاعد مجالس البلديات التي شهدت انتخابات، تلاه في ذلك حزب الليبراليين الديمقراطيين ثم حزب الخضر. أما الحزبان الرئيسيان، العمال الحاكم والمحافظون المعارض، فقد مُنيا بخسائر هائلة وجاءا في ذيل الترتيب من حيث عدد مقاعد المحليات التي فازوا بها.
قد يبدو أن الإصلاح هزم حزب المحافظين هزيمة قاصمة، لكن العمال أيضاً تعرضوا لخسارة مهينة فعلاً. وكانت الانتخابات، على محدوديتها مؤشراً على أن البريطانيين غير راضين عن سياسات الحكومة التي اتبعتها في الأشهر العشرة من عمرها بعد فوز حزب العمال الساحق في الانتخابات البرلمانية العام الماضي. كذلك كان التصويت امتداداً لفقدان البريطانيين الثقة في حزب المحافظين الذي أخرجوه من السلطة في الانتخابات العامة الأخيرة.
المشكلة الحقيقية أن رئيس الوزراء الحالي كير ستارمر لا يدرك بشكل صحيح دلالة تلك النتائج، ولا يرى أن الناخبين غير راضين عن أداء حزب العمال في الحكم ولا توجهاته التي لم تزد الناس إلا فقراً وتقشفاً وتدهوراً في مستوى المعيشة. أما زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوك فهي تتمتع أصلاً بعنجهية وصلف يصل إلى حد الإنكار الدائم. ومنذ تولت قيادة الحزب قبل ستة أشهر ومواقفها وسياساتها تغلب عليها المزايدة على التطرف إلى حد الاقتراب من العنصرية. مع ذلك.
إنما التغيير الحقيقي والأكثر أهمية ودلالة الذي أتت به هذه الانتخابات المحدودة فهو أن الناس لم تعد تثق كثيراً في التكوينات التقليدية. فلطالما جرى تدوير رئاسة الحكومة بين الحزبين الكبيرين، المحافظين والعمال، وبقيت الأحزاب الأخرى ضئيلة التمثيل في البرلمان وخافتة الصوت في المعارضة.
الواضح الآن، أن الأحزاب التي كانت على هامش السياسة التقليدية، كالإصلاح والليبراليين الديمقراطيين والخضر، هي اختيار الجماهير. ربما ليس عن قناعة ببرامجها ومواقفها أو سياساتها ولكن بحثاً عن بديل للحزبين التقليديين.
هناك أهمية أعمق في تصوري لتلك النتائج ودلالتها من حيث تحول توجهات الجماهير بعيداً عن التكوينات التقليدية إلى القوى التي كانت هامشية.
رغم أن أغلب التحليلات ستضع ما شهدته بريطانيا في سياق صعود اليمين المتطرف والفوضوي وربما العنصري على حساب القوى السياسية التقليدية الوسطية، إلا أن الأرجح أن توجهات الناخبين في الديمقراطيات الغربية هي نحو تصعيد قوى الهامش على حساب قوى المتن التقليدية – بغض النظر عن توجهها وسياساتها.
والنتيجة الأهم لهذا التوجّه هي عدم الفوز الحاسم لأي قوة أو تيار، بل تشكيل جديد للساحات السياسية من قوى متعددة ما بين أقصى اليمين وطرفه وأقصى اليسار وطرفه. ولأن بريطانيا تاريخياً مركز راسخ في الديمقراطيات الغربية فإن هذا النموذج يتسق إلى حد كبير مع ما يجري في العالم، متجاوزاً بريطانيا وغيرها، وهو بروز نظام عالمي جديد متعدد الأطراف.
يعزز من هذه النظرة أن القوى التقليدية في عالم ما قبل الحرب الباردة وبعدها يتراجع دورها بشكل واضح، إما بالانكفاء على ذاتها من خلال سياسات شوفينية واضحة أو لضعف قدراتها المطّرد. من شأن ذلك أن يتيح الفرصة أمام صعود قوى، كانت حتى قبل قليل قوى طرفية، لتتقدم على حساب المركز مشكلة عالما متعدد الأقطاب.
ربما تبدو وجهة النظر هذه فيها قدر من المبالغة، لكن بعد الفوز الساحق لحزب الإصلاح البريطاني اليميني المتطرف والهزيمة الساحقة لحزبي المحافظين والعمال، ليست هناك أي مبالغة. فكل شيء ممكن، وتوجهات الجماهير العامة لم تعد خاضعة تماماً لسيناريوهات المحللين وشركات العلاقات العامة واستطلاعات الرأي التي تجريها.