حُظّرت، في الأردن، «جماعة الإخوان المسلمين» وصُنّفت جمعيّة غير مشروعة، وهذا بعد كشف خليّة اتُّهمت بـ»التخطيط لتنفيذ أعمال إرهابيّة». وكان من الأوصاف شبه الرسميّة التي تداولها الإعلام أنّ «الجماعة»، وهي وثيقة التداخل مع «حماس»، «تعرّض حياة الأردنيّين للمخاطر».
ترافق هذا التطوّر مع اعتقال وزارة الداخلية السوريّة قياديّين في «حركة الجهاد الإسلاميّ»، واكتشاف تورّط لـ»حماس» في إطلاق صواريخ من لبنان، وهو ما يُستبعَد حصوله دون موافقة «حزب الله». وإذ يميل مؤيّدو نظام الشرع إلى وصفه بالإسلاميّ «السابق»، فإنّ الضغط الأكبر عليه يطال تخلّصه من المسلّحين الإسلاميّين غير السوريّين بوصفهم التجسيد الأشدّ نتوءاً لتصادم الإسلام السياسيّ مع الدولة والوطنيّة السوريّتين.
ومستجدّات كهذه باتت توحي أنّ ما يجري من تنازُع ذي طبيعة أمنيّة بات يستولي على الحدث المشرقيّ، وأنّ الجماعات الإسلاميّة التي تنهال عليها الضربات تتقدّم من العالم كعصابات لعنف محض لا تخالطه السياسة إلاّ في الحدّ الأدنى. فلبّ «برامجها» السياسيّة هو عبور الحدود الوطنيّة للدول واستخدامها معابر لعمليّات عنفيّة، والأمر غير شرعيّ تعريفاً. وفي آخر المطاف يلوح السلاح، بامتلاكه وباستعماله، قضيّة قضاياها. فمسألة لبنان الأولى هي اليوم نزع سلاح «حزب الله»، وهي نفسها المسألة التي تقفز بسرعة إلى صدارة الحياة السياسيّة العراقيّة حيث يتزايد المطالبون بتقليم أظافر «الحشد الشعبيّ» وسلاحه، فيما يُرجّح أنّ يتأدّى عن إضعاف إيران تسريع للوجهة هذه.
وتتكفّل اللغة السائدة إيضاح ما لم يتّضح من هذا النشاط. هكذا تتكاثر، عند تناول المسلّحين الإسلاميّين، المصطلحات إيّاها التي تُستعمل في الكلام عن المهرّبين الحدوديّين والخارجين على القانون، كـ «التهريب» و»العصابات» و»المعابر»... وتضيف «حماس» إلى هذا القاموس مصطلح «الخطف»، المألوف في عالم المهرّبين، ليس فقط لخطفها رهائن 7 أكتوبر، بل أيضاً لرفضها تسليم من تبقّى منهم بما يقطع الطريق على حرب نتانياهو الإباديّة.
ويمتدّ التعاطي هذا إلى إيران بوصفها، أقلّه في نظر الدول الغربيّة، «دولة مارقة». وكان لافتاً في الأسبوع الماضي استدعاء الخارجيّة اللبنانيّة السفير الإيرانيّ في لبنان احتجاجاً على تغريدته حول «مؤامرة» نزع سلاح «حزب الله»، وهذا بعدما بات لبنان يحظّر الرحلات الجوّيّة الإيرانيّة إليه، فيما تعكف سلطاته على ضبط حدوده البرّيّة والبحريّة.
بلغة أخرى، فظاهرة الإسلام السياسيّ، بسنّتها وشيعتها، بحاكميها ومحكوميها، بدولتها القائدة وأطرافها المَقودة، تُرسم ظاهرةً أمنيّة أضعافَ أضعافِ رسمَها ظاهرةً سياسيّة. ولئن اتُّهمت الحكومات بتعميم هذه الصورة فإنّ ما ساعدها في ذلك أنّ الإسلاميّين غير معروفين أصلاً بتصوّرات وأفكار سياسيّة تتعدّى عموميّاتهم عن الدين والدولة والجهاد. وبدوره جاء «طوفان الأقصى» ليتوّج هذا الافتقار الى الأفكار والتصوّرات السياسيّة، أو أنّه شكّلَ، هو نفسه، المُعادل العمليّ لذاك الافتقار. وهذا إلى جانب اصطباغ الإسلاميّين، أو معظم حركاتهم، بالميليشيات كحالة غير شرعيّة تناقض الدولة والانتظام السلميّ للحياة.
وحين يردّ الإسلاميّون اليوم على ما ترميهم به الحكومات فكلّ ما يفعلونه هو توكيد خوائهم السياسيّ بالاتّكاء على تهديدات من طبيعة أمنيّة. ففي لبنان مثلاً، يظهر في ذاك الوسط، وبلا توقّف، مَن يمارس التخويف بالحرب الأهليّة، أو «بقطع الأيدي» التي تمتدّ إلى سلاح «الحزب». أمّا الأردن فاتّهمته صحيفة ممانعة بأنّه «يجازف باستقراره» إذ يحظّر «الإخوان»...
وتنحسر «مخاطبة الأمّة وشحذ عزيمتها» إلى مبالغات كلاميّة من صنف يأنفه عقل البَعوض، عن انتصارات متلاحقة وإنجازات تحقّقها التنظيمات المحطّمة في غزّة ولبنان، أشدُّها كاريكاتيريّة إعلانات الحوثيّين اليمنيّين «إصابة أهداف في العمق الإسرائيليّ».
وهكذا يواجهنا طور جديد من الإفلاس الإسلامويّ يتحوّل فصلاً آخر من فصول محو آثار «طوفان الأقصى». فهل نحن ندخل حقبة ما بعد الإسلام السياسيّ؟ والحال أنّ من المبكر تقديم إجابات قاطعة، والإسلاميّون بارعون في التعويل على إخفاق سواهم، ومَن يدري فقد يظهر بين مُحبَطيهم من يبشّر بالانسحاب إلى الإرهاب الصريح، ومن يستعيد سيّد قطب فيرمي المجتمعات بالعيش في الجاهليّة وانتظار الخلاص على يد «عصبة مؤمنة». لكنْ في الأحوال كافّة، يُفترض بالحلّ الأمنيّ أن يكون بداية لا نهاية، أو أنّ هذا ما يصبو إليه الراغب في حلول تتّصف بالديمومة وتمهّد للاستقرار. ذاك أنّ المُلحّ الانكباب على صياغات سياسيّة وفكريّة تجفّف المياه الآسنة للتيّار هذا، فتؤكّدعلى الوطنيّة التي تسدّ ما قد يتركه الضمور الإسلامويّ من فراغ، وتحاصر نزعات نضاليّة، طائفيّة وإثنيّة، قد تعانق هذا الإسلام السياسيّ أو ذاك. ويبقى من الأساسيّ دوماً توسيع الحيّز الذي تُلبّى فيه مصالح المواطنين وحقوقهم، والاشتغال على نظريّة تضمن، على المدى الأبعد، تحرير السياسة ومصادر الشرعيّة ممّا هو غير سياسيّ. وهذا جميعاً يستدعي التخفّف من نظرة ضدّيّة إلى العالم غالباً ما شكّلت تربة صالحة لجموح الإسلامويّين. لكنْ يبقى أنّ وقف القتل الإسرائيليّ في غزّة هو الشرط السابق على كلّ شرط لازم.