: آخر تحديث

الأردن ما بعد خلية «الإخوان»: هل حانت لحظة القطيعة؟

3
3
4

لم تكن العلاقة بين الدولة الأردنية وجماعة الإخوان المسلمين الأم وابنتها «جبهة العمل» يوماً علاقة ثقة كاملة أو خصومة مطلقة. بل ظلت تتأرجح لعقود بين الاحتواء والتقييد، بين القبول المحكوم بشروط، والرفض المعلّق على ضرورات الأمن الإقليمي والسياسة الداخلية. لكن الإعلان الأخير عن تفكيك «خلية إرهابية» مرتبطة، بحسب السلطات الأردنية بعناصر من الجماعة، يفتح صفحة جديدة في هذا السجل المتقلب، ويفرض على الدولة والجماعة معاً إعادة تعريف حدود العلاقة، بل وحدود اللعبة كلها.

ما أعلنت عنه المخابرات الأردنية لا يمكن المرور عليه بوصفه حادثاً عابراً. نحن لا نتحدث عن منشورات تحريضية أو خروقات في مظاهرة، بل عن اتهامات صريحة بتصنيع صواريخ محلية، وتخزين متفجرات، والتدرب في الخارج، والتخطيط لتحويل الأردن إلى ساحة دعم «عسكري» للقضية الفلسطينية. إنها لغة أمنية قاطعة، تتجاوز السياسة والمماحكات، وتستدعي استنفار الدولة بأجهزتها ورموزها. وما أضفى على الحدث طابعاً استثنائياً هو الإخراج الإعلامي الذي رافقه: مقاطع اعترافات مصورة، وتقارير رسمية، وذكر مباشر لانتماء العناصر إلى «الإخوان»، مع التركيز على أنهم من «الجماعة غير المرخصة»، وكأن الدولة تُهيئ الرأي العام لخطوة قادمة، أكثر من مجرد إعلان عن نجاح أمني.

هنا تحديداً، تصبح الحادثة نافذة لفهم أعمق لما يجري. فالحديث ليس فقط عن جماعة تخطت خطوطاً حمراء، بل عن تغير في المزاج الرسمي، وانتقال من سياسة «التقليم المتكرر» إلى احتمال «التحجيم الجذري» لبعض تيارات الحركة، وربما كل الجسد التنظيمي. وهو تغير ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكم طويل بدأ منذ التسعينات، مع قانون الصوت الواحد، وتفاقم مع اتفاقية وادي عربة، وانفجر مع انقسامات الجماعة، وتحوّلات «الربيع العربي»، وانتهى إلى مشهد اليوم.

منذ سنوات، تعيش جماعة الإخوان في الأردن حالة انقسام داخلي بين جناح «الحمائم» وهو تيار برغماتي يرى في الأردن وطناً وسقفاً، وجناح «الصقور» الذي عادة ما يوصف بأنه حمساوي الهوى لا يرى في الأردن سوى ساحة عبور لا أكثر. الأخير هو من يرتفع صوته عادة في الأزمات بينما يحاول البرغماتيون بخطاب فضفاض وعام أن يراوحوا بين التنصل منه والضغط على الحكومة لتحجيم الأزمة وفق منطق «عمل فردي».

حالة التماسّ بين الحكومة والجماعة أخذت منحى مختلفاً بعد عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في غزة، حيث تصاعدت خطابات التحدي، وتحولت المظاهرات إلى منابر مبايعة علنية لقادة «حماس»، في تجاوز واضح لسقف الدولة، وتغذية لخطاب تعبوي لا يمكن تبريره بدعوى التضامن، وهذه إشكالية جوهرية في مناطق أخرى من العالم العربي والإسلامي حيث التضامن يتخذ الأزمات أقنعة لوجه آخر عن كيانات وفواعل دون الدولة تتلبس دورها وحدود سلطتها.

هذه الديناميكية فرضت على الدولة الأردنية إعادة تقييم تموضع الجماعة، ليس فقط باعتبارها تنظيماً سياسياً، بل باعتبار «الإخوان» أهم كيان فاعل دون الدولة يمتلك قدرة تحريضية مسنودة بخبرات طويلة مجتعمية في التحشيد في لحظة إقليمية ودولية شديدة الحساسية.

من هنا فاتهامات تهريب السلاح، والتدريبات في لبنان، تشير صراحة إلى ارتباطات مع «حماس» وربما مع «حزب الله»، أي مع محور سياسي عسكري خارجي لم تُخفِ عمّان خشيتها منه. ما يعني أن الجماعة - أو على الأقل جزءاً منها - لم تعد تُعامل كأحد مكونات الداخل، بل كامتداد خارجي قابل للاشتعال في أي لحظة.

غير أن المفارقة التي لا تغيب عن المراقب للعلاقة الممتدة بين الدولة والجماعة، أن الأخيرة تتقن مساحة اللعب في المنطقة الرمادية، ولم تكن يوماً بعيدة عن أجهزة الدولة. بل إن تاريخها يشهد لحظات تقاطع واضحة مع السلطة، سواء من خلال الخدمات الاجتماعية، أو من خلال حزب جبهة العمل الإسلامي الذي شارك في البرلمان ووفّر للدولة «معارضة منضبطة». لكن يبدو أن هذه المعادلة فقدت صلاحيتها، بعدما أصبح جناح الصقور بمزاجه الثوري يفرض خطابه داخل الجماعة، ويستفيد من الشارع الغاضب ويعيد إنتاج شرعيته عبره، بل ويزايد على الدولة في ملفات سيادية.

إزاء هذا المشهد، يمكن فهم إصرار الدولة على تسمية الأشياء بأسمائها. لم يكن التركيز على «الانتماء للإخوان» في بيانات المخابرات مجرد هامش، بل كان مؤشراً على رغبة في إعادة تعريف الجماعة في الوعي العام: من كيان سياسي حاضر بقوة، إلى كيان أمني مهدِّد. وهو تعريف، إن استقر، فسيشكّل مبرراً لسلسلة من الإجراءات المقبلة، سواء بحل الحزب، أو بتقييد أعماله وأنشطته وربما إغلاق ما تبقى من مراكزه ومؤسساته التي تشمل كل الأنشطة من التعليم إلى الصحة والرعاية الاجتماعية.

هل تمضي الدولة نحو سيناريو اجتثاث كامل؟ من غير المرجّح بالنسبة إلي على الأقل من متابعة لمنحنى خط العلاقة بين «الإخوان» والحكومة في التجربة الأردنية منذ البدايات المبكرة، يمكن القول إن القطيعة الكاملة مستبعدة، فعلى مدى التاريخ كانت السلطة ميّالة إلى استراتيجية «تحجيم الخصم وتقليم أظافره لا اقتلاعه». فالجماعة من وجهة نظر الكثير من المعنيين والمختصين بالحالة الأردنية لديها خصوصية مختلفة عن باقي الدول، فهي لعبت أدوار ضبط للحالة الإسلاموية في منطقة متاخمة لتوترات مستدامة، وهي في نظرها في حال ضبطها ومراقبتها أهون من حالة فراغ تنتج عدمية وميلاً نحو العسكرة من خلال شكل جماعات أكثر راديكالية وأقل قابلية للاحتواء، ومع ذلك فإن الحالة الجديدة من وجهة نظري في الأردن وفي سياقات أخرى محكومة بتحولات ما بعد «الطوفان» ونزوح الكثير من الآيديولوجيات نحو التطرّف لأسباب كثيرة.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل تملك الجماعة القدرة على إعادة إنتاج نفسها كحركة وطنية موالية قادرة على ضبط شبابها؟ أم أن انكشاف بنيتها الداخلية وتغوّل خطاب التطرّف والدعوة للعسكرة تجعل من هذا الخيار مستبعداً؟ في المقابل، هل تكتفي الدولة بإرسال رسائل صارمة، لإعادة ضبط العلاقة، أم أنها تذهب خطوة للأمام نحو إعادة هندسة الحياة السياسية على معادلات جديدة تقتضي إقصاء الجماعة من المشهد؟ الأرجح أن السيناريو الأقرب هو المضي في سياسة «توطين الجماعة» نحو الاندماج الكامل في شروط ومواقف الدولة، خصوصاً أنها ضمن سياق دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية أثبتت أنها مع قضية فلسطين وإيقاف الوحشية الإسرائيلية أكثر بكثير من محور الشعارات والانكسارات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد