عبدالرحمن الحبيب
في ظل القلق والحيرة العالمية حول ما يُشاع عن تفكك النظام العالمي، خاصة مع التغيرات الاقتصادية، ثمة دفعة من الطاقة الإيجابية يعرضها أستاذ العلاقات الدولية أميتاف أشاريا بمقاله الأخير في ثلاث أطروحات:
أولاً- النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن جيداً لجميع دول العالم، كما كان للدول الغربية بشكل خاص.
ثانياً: مبادئ هذا النظام ليست من اختراع الغرب وحده. ثالثاً: النظام الحالي لم ينتهِ بعد؛ ليصل إلى أن التغيرات الحالية قد تدعو للتفاؤل والأمل.
وسبق لأشاريا أن أصدر مؤخراً كتاباً مثيراً ومفاجئاً عنوانه «النظام العالمي الحالي والمستقبلي: لماذا ستنجو الحضارة العالمية من تراجع الغرب» خلاصته أنه منذ فجر القرن الحادي والعشرين، كان الغرب في أزمة: تهدد الاضطرابات الاجتماعية، الاستقطاب السياسي والشعبوية، صعود القوى العظمى الأخرى - وخاصة الصين - قد ينتج عنه تفكيك النظام العالمي الذي يقوده الغرب اليوم.. يخشى الكثيرون أن يؤدي هذا إلى فوضى عالمية، لكن هذا وَهْمٌ غربي، بل إن تراجع الغرب قد يكون أمرًا جيدًا لمستقبل العالم حسب المؤلف الذي يرى أن النظام العالمي ليس حكراً على أي حضارة أو أمة، فقواعده جاءت من حضارات سومر القديمة والهند والصين واليونان وأمريكا الوسطى، مروراً بالخلافة الإسلامية في العصور الوسطى والإمبراطوريات الأوراسية إلى الحاضر مع الهيمنة الغربية، وهذه الهيمنة تنهار من الداخل.
تعتبر أطروحات أميتاف أشاريا ذات أهمية خاصة حيث أنه بروفيسور في قلب العاصمة الأمريكية بالجامعة الأمريكية واشنطن، ويشغل كرسي اليونسكو للتحديات والحوكمة العابرة للحدود الوطنية بكلية الخدمة الدولية، ويعمل رئيسًا لمركز دراسات رابطة دول جنوب شرق آسيا، وهو أمريكي من أصل هندي.
بالنسبة لأطروحته الأولى يختلف المقال مع تعميم المدافعين عن النظام الحالي بأنه منع حروبًا كبرى وحافظ على نظام دولي مستقر ومزدهر خلال العقود السبعة الماضية، مؤكداً أن هذا «السلام» اقتصر على بعض الدول خاصة الغرب، إلا أنه ساهم في الفوضى في دول غير غربية، مثل التدخلات الأمريكية في فيتنام والعراق وأفغانستان.
وفيما يتعلق بالأطروحة الثانية، يؤكد المقال أن فكرة التعاون بين الدول ليست جديدة من الغرب بل قديمة قدم التاريخ وتسبق بكثير ما ذكره هنري كيسنجر في كتابه «النظام العالمي» عن «الوفاق الغربي» الذي نشأ بعد هزيمة نابليون في عام 1815.
ويضرب مثلاً بنظام دبلوماسي قديم منذ ثلاثة آلاف سنة، يُعرف باسم «رسائل تل العمارنة» في صعيد مصر، وهي مراسلات دبلوماسية بين حكام مصر وممثليهم في مملكتي كنعان وآمور، وقادة المملكة المجاورة؛ يقوم على مبادئ المساواة والمعاملة بالمثل بين القوى العظمى آنذاك؛ كما أن أقدم اتفاقية تنص على القواعد الإنسانية للحرب، بين مصر والحيثيين، والتي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1269 قبل الميلاد، قبل اتفاقيات جنيف لعام 1949.
ثالثاً: النظام الحالي لم يمت بعد، والولايات المتحدة لا تزال أقوى دولة في العالم بفضل قوتها العسكرية، وهيمنة الدولار، والقاعدة التكنولوجية الأمريكية الهائلة، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يصمد نظامها العالمي حتى نهاية هذا القرن.
ومن هنا، يستنتج أشاريا في خاتمة مقاله بأن التغيرات الاقتصادية الطارئة سبب يدعو للتفاؤل، لأن «إدراك أن النظام الأمريكي ليس النظام الوحيد الممكن، وأنه بالنسبة للعديد من الدول ليس حتى نظاماً جيداً أو عادلاً، يسمح بالأمل في أن نهايته قد تبشر بعالم أكثر شمولاً.. وأنه بالإمكان الوصول إلى عالم أكثر عدلاً تشكله مجموعة عالمية من الدول، دون الاقتصار على الولايات المتحدة أو الصين أو حفنة من القوى العظمى.
وفي كتابه، يرى البروفيسور أشاريا أن نهاية الغرب وتفكك النظام العالمي ذي القطب الواحد لن تؤدي إلى الفوضى بل ربما لنظام أفضل، يقول: «إن فكرة الغرب ولدت من الإمبريالية والإقصاء والعنصرية والحرب، لكن الغرب لا يحتكر بناء النظام العالمي عندما يُنظر إليه على المدى البعيد، فالنظام العالمي الحالي له أصول عالمية متعددة.. قد يكون انحدار الغرب - الذي نأسف عليه كثيرًا الآن - أمرًا جيدًا للسلام والنظام العالمي».
النظام العالمي ليس حكراً على أية حضارة أو أمة، كما يؤكد أشاريا، فالعديد من المبادئ والآليات الأساسية للنظام العالمي، مثل الدبلوماسية، والترابط الاقتصادي، وأنظمة الدول المستقلة، والتعاون بين القوى العظمى، وحرية البحار، والحرب العادلة، والنظام الدولي القائم على القواعد، جاءت من حضارات في آسيا وأفريقيا وأميركا ما قبل كولومبوس، بقدر ما جاءت من أوروبا والغرب.. ومع ذلك، وبفضل قرون من الهيمنة الغربية، أصبحت أفكار ومساهمات الحضارات الأخرى غير مرئية ولا تزال تُرفَض في الغرب.
ويطرح أشاريا الاستجابات المطلوبة، وهي: أولاً، بناء تحالفات عابرة للحدود الوطنية لمعارضة الشعبوية والحركات السياسية اليمينية المتطرفة؛ ثانياً، الجميع يركزون على تحول القوة، وليس التغيير السلمي، فإحياء دراسات السلام التي سقطت من الاهتمام أمر بالغ الأهمية؛ ثالثاً، نحن بحاجة أيضًا إلى إنهاء الانقسام بين الغرب وبقية العالم.