هاني الظاهري
في خضم الثورة الرقمية وتزايد زخم المحتوى المتنوع عبر منصات التواصل الاجتماعية، ظهر أخيراً مصطلح علمي جديد هو «سوسة الدماغ»، الذي يشير، بحسب قاموس «أكسفورد»، إلى: «جزء من لحن أو عبارة تتكرر باستمرار في الذهن دون سيطرة من الشخص، ويصعب التخلص منها».
في وقت مضى وقبل أن تغرقنا ترندات تيك توك، وريلز انستغرام، وفيديوهات X المتتالية، كان المفهوم مرتبطاً بالموسيقى، حيث يعلق لحن معين أو مقطع من أغنية في ذهنك ويتكرر لا إرادياً، لكن التحولات الحديثة في طبيعة المحتوى وسّعت معنى سوسة الدماغ إلى مستوى أكثر شمولاً وتأثيراً.
أصبح من الممكن أن تتشكل سوسة الدماغ من جملة قالها ممثل أو مؤثر، أو من خلال مقطع ساخر، أو صوت مكرر في فيديو ترند، أو حتى إيماءة مشهورة في مقطع قصير لشخص مجهول، فكم من مرة وجدت نفسك تردد عبارة محددة دون شعور، أو شاهدت من حولك يرددون لزمات شهيرة من مقطع ما؟ وكم من مرة تردد في رأسك صوت معيّن من فيديو ترند وكأنه شريط لاصق عالق في خلايا دماغك؟
السبب وراء هذا التأثير المزعج يعود إلى بنية المحتوى القصير ولزماته التي تكرّر نفسها عبر مئات الفيديوهات بطرق مختلفة. هذا التكرار المكثف يشكّل ما يُعرف في علم النفس بـ«الترميز القوي» الذي يجعل الدماغ يحتفظ بهذا العنصر السمعي أو البصري حتى في لحظات الراحة أو النوم.
اليوم تتنافس تطبيقات التواصل الاجتماعي لجذب عقل المستخدم وإبقائه منشغلاً لأطول وقت ممكن، وبالتالي فقد تبرمج الدماغ على استقبال وتحليل كميات ضخمة من المحفزات في وقت قصير، لكن ما النتيجة؟ أصبحت عقولنا أرضاً خصبة لنمو «سوسات» جديدة كل يوم وكل ساعة، سوسات تتغذى على التكرار والمحتوى السريع، وتؤثر على وعينا بشكل خفي.
المخاوف هنا ليست من تكرار جملة مضحكة أو لحن جذاب فحسب، بل في أن تتحول هذه «السوسات» إلى أدوات تأثير نفسي وثقافي تُستخدم لتوجيه السلوك أو غرس أفكار سطحية مضرة على المستوى الاجتماعي والأمني بشكل لا واعٍ خصوصاً لدى صغار السن.
ولهذا بات من المهم أن نعي هذا التأثير، ونطوّر مناعتنا الذهنية تجاه المحتوى المتكرر من خلال تدريب أنفسنا على تقنيات معينة مثل تقليل وقت الشاشة، والوعي اللحظي (mindfulness)، والانخراط في محتوى أعمق وأكثر تنوعاً وفائدة كلما شعرنا بنخر سوسة جديدة في عقولنا.
بالمجمل يمكننا قول إن مفهوم «سوسة الدماغ» بات ظاهرة معقدة تمس الإدراك والذاكرة والسلوك، بفعل أدوات تتقن اللعب على أوتار العقل الباطن، لكن الخطوة الأولى نحو تحكّم أكبر بعقولنا في زمن كثافة المحتوى وسرعة انتشاره هي الوعي بهذه الظاهرة، وزيادة نسبة التحكم في ما تستقبله عقولنا وعقول أبنائنا من نفايات صوتيه ومرئية يعج بها الفضاء السيبراني بشكل هستيري لم يعد بإمكان أحد إيقافه.