: آخر تحديث

صُنَّاع الكتب جنود مجهولون

4
3
4

عبدالرحمن الحبيب

هناك جنود مجهولون بكل مجال من مجالات الحياة، وصانعو الكتب أحدهم، إذ لا أحد يعرف صُنَّاعها أو بالأحرى لا أحد يعيرهم اهتماماً إلا ما ندر من أصحاب التخصص.. البروفيسور آدم سميث بكلية الأدب بجامعة ريدينغ والذي هو بدوره يدير مطبعة ومؤلَف عن تاريخ الكتاب، ينتصر للمبدعين من هؤلاء المجهولين، حيث يكشف بكتابه الجديد «صُنَّاع الكتب» تاريخ صناعة الكتاب المطبوع الممتد لخمسمائة عام، ويُلقي الضوء على مبدعي صناعتها بأسلوب قصصي مثير يجمع بين الموضوعي والشخصي لثمانية عشر فردًا (رجالاً ونساءً) ساهموا في تطوير الكتب بتمكينهم للمؤلفين من الإبداع والتوثيق والترفيه.

احتفالاً بمرور 550 عامًا على الكتاب المطبوع يستعرض المؤلف صانعي الكتب المُتمردين الذين غيّروا مجرى تاريخ هذه الصناعة من بداية التغليف بجلود الحيوانات وطباعة أفضل الكتب مبيعًا في القرن الخامس عشر إلى آخر الإصدارات بما يحمله من تجارب هؤلاء الصُنَّاع في فن الطباعة والتصميم والتجليد؛ فوراء الكتب التي تنشر ثمة قصص وحكايات عن طابعين ومجلدين وعمال طباعة وصانعي ورق، بينهم نخبة من الأفراد الموهوبين الذين كانت حياتهم استثنائية بقدر إنجازاتهم، حسب مفهوم سميث للكتب المطبوعة، باعتبارها شكلاً إبداعياً أكثر مما نتوقع، مما يُؤكد على حرية مستخدميها في «الوسم، والتعليق، وإعادة التجليد، وإعادة الترتيب، وإعادة التنسيق».

يبدأ الكتاب قبل 550 عامًا، مع الهولندي وينكين دي وورد، أحد المهاجرين في لندن الذين ساهموا في نشر ثقافة الطباعة؛ فمن حانةٍ مُحوّلةٍ في شارع فليت، نشر أكثر من 800 عنوان، مُستخدمًا بشكلٍ رائدٍ قوالب الخشب، ومُولعًا بأدب اللغة الإنجليزية الوسطى، وبالكتيبات والإرشادات؛ من بين منشوراته الأكثر غرابةً، كان مشد الولادة المطبوع، وهو شريطٌ من الورق يُوضع على رحم المرأة أثناء المخاض، طلبًا للعون الإلهي لنهايةٍ سعيدة!

بأسلوب أدبي مرح يكشف المؤلف كيف كانت تبدو بداية المطبوعات، وكيف كانت رائحتها؛ ويُفصّل العمل الشاق بمطرقة وزنها 10 أرطال، وغراء حيواني ساخن، وجلد عجل كان يقوم به المجلدون؛ ويصف «عمال الأوعية»، و«الخياطين»، و«الطبَّاقين» الذين عملوا بأدوار مختلفة في مصانع الورق حتى اخترع الفرنسي نيكولا لويس روبرت آلة يمكنها إنتاج ما يصل إلى 50 مترًا من الورق في الدقيقة.

النساء أيضاً كان لهن دور في صناعة الكتب، فمن بينهن الأختان ماري وآنا كوليت، وهما مثالان على موضة تقطيع الكتب بالسكاكين والمقصات وإعادة تجميعها مع صور ونصوص إضافية، وقد لاقت مهارتهما في القص واللصق في إعادة صياغة ما أسمتاه «تناغمات» الكتب استحسان الملك تشارلز الأول، الذي زارهما عام 1624؛ وكما يذكر سميث، فهو تذكير بأن الكتب في حالة تغير دائم.

في القرن الثامن عشر، حذا العديد من «مُصَوِّري الكتب» أو «الرسامين الإضافيين» حذوهما، فوسعوا نطاق النسخ المطبوعة القياسية إلى حدود مثيرة للسخرية أحيانًا: إذ يمكن لعمل من أربعة مجلدات أن يصبح 36 مجلدًا مع آلاف الرسوم التوضيحية مشعلاً «جنون الكتب» على نطاق واسع.

من أشهر ما تناوله الكتاب هما مصمم الطباعة جون باسكرفيل، والطابع (الأب المؤسس لأمريكا) بنجامين فرانكلين، حيث يُشيد سميث بـ «الوضوح الجذري» لخط باسكرفيل، ولكنه يُسلّط الضوء أيضًا على أهمية زوجته، سارة إيفز، في إدارة أعمال الطباعة في شركته. أما فرانكلين، المُدمن على العمل، والذي كانت حياته حافلة بالأحداث لدرجة أن الفصل المخصص له يكاد ينفجر، فإن القصة تدور حول عمولات عمله المتواضعة بقدر ما تدور حول الكتب. على سبيل المثال، أثناء عمله على رواية «باميلا» لصموئيل ريتشاردسون، انقطع عن العمل لطباعة تذاكر اليانصيب، ومذكرات توقيف الشرطة، وفواتير القبعات.

يتضمن الكتاب معلومات مثيرة تأتي عرضاً عندما يتطرق لأحد الموضوعات؛ كطريقة بيع الكتب في السابق كحزمة مطوية من الأوراق، على سبيل المثال، وتركها للعميل لتجليدها؛ أو كيف باعت مكتبة بودليان «المطوية الأولى» لشكسبير بثمن بخس عام 1624، كجزء من سياستها في التخلص من الكتب «الفائضة»، ولم تخرج من الملكية الخاصة إلا بعد ما يقرب من 300 عام.

أحد الشخصيات المثيرة هو تشارلز إدوارد مودي (ت 1890)، مُروّج المكتبة المتداولة والشخصية الأكثر تأثيرًا في مجال نشر الكتب قبل جيف بيزوس (الرئيس التنفيذي لشركة أمازون)، أحدث نظام مودي الفعال للتوزيع ووفرة النصوص ثورة في حركة المكتبات المتداولة، بينما أثرت مكتبته «المختارة» على قيم الطبقة المتوسطة في العصر الفيكتوري وهيكلية الرواية المكونة من ثلاثة مجلدات، وكانت مكتبته الضخمة المتداولة بمثابة صفقة رابحة للأعضاء (جنيه واحد للمشتركين في المدينة، وجنيهين للمشتركين في الريف، وهو سعر متدني)، ولكنها أغضبت العديد من المؤلفين، وخاصة أولئك الذين لم تكن كتبهم متاحة، ومن بينهم الروائي جورج مور، الذي هاجم مودي ووصفه بأنه «المورد الأكبر للكتب عديمة القيمة».. إلا أن مشروع مودي انتهى في النهاية بالإفلاس!

بتركيزه على الشخصيات أكثر من الأشياء، يُضفي المؤلف على تاريخ الكتب وآلات طباعتها صورًا بشرية آسرة، فسرده المزدحم بالتفاصيل يُعلمنا الكثير عن تلك الآلات، لا سيما آلات ضرب الورق التي يُثير ضجيجها نثره النابض بالحياة.. أنها قصة طابعين ومجلدين وصانعي ورق، فنانين وناشرين ومؤسسي مكتبات، قصة مهارة وحرفة، ارتجال وأخطاء، نجاح وفشل...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد