وفي النهاية فعلها ترمب وانتصر في معركة شرسة جداً للوصول إلى البيت الأبيض، وبات الرئيس السابق الآن الرئيس المنتخب، وإذا ما نظرنا إلى رحلة ترمب السندبادية الخطرة مع تركه البيت الأبيض وعدم اعترافه برئاسة جو بايدن ووصوله إلى قلعته في مار آلاغو، مروراً بأربعة أعوام شهدت صراعات سياسية ودستورية وقانونية، وتشكيك كثيرين من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي بعودته للبيت الأبيض، عاد الرجل العنيد والسياسي الجسور كما يوصف، فما هي المحطات والملفات الأساس التي تحكمت بهذه العودة؟
أولاً مسيرته في منفاه بولاية فلوريدا، فكما أشرنا خرج الرئيس ترمب مكسوراً في نهاية ولايته الرئاسية وقد أنجز بنظر كثيرين من مؤيديه وجزء كبير من الشعب الأميركي أموراً مهمة في أوقات صعبة، من بينها على الصعيد الاقتصادي وضعاً مالياً وضريبياً أفضل للمواطن الأميركي، إضافة، وبحسب أنصاره، إلى حماية الحدود من موجات ديموغرافية كانت تنوي الدخول إلى أميركا، كما حمى ترمب "القيم الأميركية" التي اخترقت في ما بعد من قبل جهاز تربية أوباما وبايدن.
أما على الصعيد الخارجي وربما الأهم بالنسبة إلى العرب والشرق أوسطيين، فقد غير ترمب السياسات الأوبامية القائمة منذ عام 2009، ومن أبرز ما أنجزه، بحسب قاعدته الشعبية الواسعة، التصدي لإيران وميليشياتها في المنطقة، وقد يقول بعضهم إن إدارة ترمب قد يكون بمقدورها القيام بأكثر من ذلك، لكن المراقبين التاريخيين يقارنون بين قراراته لوقف انفلاش إيران وسياسة أوباما وبايدن، فمحور أوباما وبايدن وهاريس كان قد غير سياسة جورج بوش السابقة واندمج في سياسة التفاوض مع إيران، وأنجز أخطر اتفاق مع النظام الخميني عبر الاتفاق النووي الإيراني.
المشروع الأوبامي - الخميني حوّل للنظام أكثر من 150 مليار دولار، وهذه الكتلة الهائلة مولت النخبة الحاكمة في طهران، فمولت الأخيرة القمع الداخلي وعمليات الـ "باسيج" والـ "باسدران" وجماعات إيران في الخارج مثل "حزب الله" و"حماس" والحوثيين وميليشيات الأسد، وهذا بحد ذاته شكل خطراً على العمق الأميركي والأمن القومي، وليس فقط على إسرائيل والدول العربية.
انتخاب ترمب عام 2016 مثل زلزالاً في قعر البحر ضرب كل المقاييس المنتظرة في أميركا، وأتى برجل أعمال كبير من نيويورك إلى واشنطن، وقام باختبار المؤسسة السياسية من دون أية خبرة سابقة في هذا الموضوع، واتخذ ترمب وقتها سلسلة قرارات لمواجهة الانفلاش الخميني، وأهمها الانسحاب من الاتفاق النووي ووقف مصادر تمويل النظام، مما أدى إلى أزمة كبيرة في مؤسسات إيران.
أما الإنجاز الثاني لإدارته فكان بوضع "الحرس الثوري" أو الـ "باسدران" على لائحة الإرهاب الأميركي، مما أدى إلى قطع أوصال الدعم المالي لهذه التنظيمات التي هي بالفعل عصب النظام الإيراني.
والإنجاز الثالث كان إطلاق التحالف العربي خلال القمة العربية - الأميركية في الرياض في مايو (أيار) 2017، مما شكل شبه تطويق لطهران من قبل أميركا وحلفائها من جهة، وحلفاء واشنطن العرب من جهة أخرى.
كل هذه العوامل أدت إلى إضعاف النظام الخميني ودفعت بالشعب الإيراني إلى الانتفاضة عام 2019، وترمب قام بهذه الخطوات تحت ضغط المعارضة الأميركية التي كان يقودها باراك أوباما، وكانت الجبهة السياسية التي تعارضه واجهت مشاريعه الداخلية والخارجية بشراسة، فاتهمته بشتى الاتهامات واستفردت بمستشاريه وأركانه لحوالى نصف عقد، وعند خروجه أبقى على عدد من القرارات التنفيذية التي حاول فريق بايدن التخلص منها في ما بعد، كما جرى في الشهر الأول حيث رفع تنظيم الحوثيين من لائحة الإرهاب الأميركية.
وظن كثيرون أن ترمب انتهى سياسياً بعد أن حاكمه الكونغرس في أول شهر من تسلم بايدن، وهذا أمر لم يعتد عليه الأميركيون، فأطلق فريق السلطة في واشنطن منذ العام الأول لولاية بايدن حملات قضائية واحدة تلو الأخرى لإسكات الرئيس السابق عبر الشكاوى القانونية، وقد هدرت قدراته النفسية والمالية، وأيضاً طبقوا سياسة العزل الشامل عبر إرسال الشرطة الفدرالية لتفتيش منزله.
إلا أن ترمب كافح بقوة وجمع أشلاء قواته وطهرها من الذين انقلبوا عليه وأطلقها ضمن شعار "ماغا"، واتخذ من دارته في مار آلاغو مركز قيادته، وعاد ومد نفوذه داخل الحزب الجمهوري، وتمكن تياره من السيطرة على الحزب، وبعد ذلك ساعد في سيطرة الجمهوريين على أكثرية مجس النواب، وانتقل من هناك إلى التواصل مع حكام الولايات الجمهورية، ومع خسارة الديمقراطيين في مجلس النواب تقدم بترشيحه لرئاسة البلاد وأطلق حملة واسعة لجمع قوى سياسية غير تقليدية حوله.
وبدأ ترمب بعد الانتخابات النصفية بتحركات جماهيرية متنقلاً بين الولايات لمقابلة قاعدته، بينما كان الرئيس بايدن منهمكاً بالمشكلات الداخلية والخارجية المتعلقة خصوصاً بروسيا والصين والشرق الأوسط، وعناد التحالف العربي لسياسته، وأخيرا وليس آخراً حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي أضاعت الفرص أمام بايدن باتجاه التقدم في عملية السلام.
كثف ترمب لقاءاته الجماهيرية وعاد للساحة وتحدى بايدن خلال المناظرة الأولى والوحيدة التي أظهرت انهياره أمام الرأي العام الأميركي، وقد أدى هذا الانهيار إلى منع بايدن من خوض مناظرة أخرى، وارتأت قيادة الحزب الديمقراطي بتأثير من أوباما استبدال بايدن فوراً، وهذا أمر لم يحصل طوال التاريخ الأميركي.
قرر أركان الحزب الديمقراطي الإطاحة ببايدن واستبدلوه بنائبة الرئيس كامالا هاريس، وكان أمام الأخيرة أقل من شهرين لمواجهة ترمب وتحضير البرنامج، وقد ذهب الديمقراطيون بمرشحتهم القليلة الخبرة لمواجهة المرشح الجمهوري الأبرز، وهذا من أهم أسباب خسارتها الرئاسة.
وكانت قيادة ترمب تواصلت مع جزء معين داخل الحزب الديمقراطي، خصوصاً تيار كيندي، أي يسار الوسط، وشكل انتقال المرشح روبرت كينيدي إلى دعم ترمب ضربة كبيرة للديمقراطيين، كما انتقلت قوى عمالية أيضاً إلى حملة ترمب من دون أن يغيروا انتماءهم الحزبي الديمقراطي، فبدا أن جسماً ديمقراطياً يتحالف مع الجمهوريين.
ومن أحد أسباب انتقال العمال لدعم ترمب صراعهم ومواجهتهم تيار الـ "ووك" الذي أصبح تياراً ليبرالياً برجوازياً يمثل النخب القائمة، وهكذا وسع ترمب قيادته إلى خارج الجمهوريين، وقاعدته إلى مستقلين وديمقراطيين سابقين، أضف إلى ذلك أن الأوضاع الاقتصادية باتت شبه كارثية تحت قيادة بايدن، خصوصاً للطبقة الوسطى والعاملة، وأحد الأسباب الأخرى أن فريق ترمب اخترق الجاليات التي كانت تحت مظلة الحزب الديمقراطي مثل اللاتينوس والأفارقة الأميركيين والآسيويين، لاعتقادهم أن النخبة الحاكمة في الحزب الديمقراطي لم تعمل لمصلحتهم، وأن حلم المهاجرين الجدد بالوصول إلى مصاف الطبقة الوسطى يندثر، وفي المقابل كان ترمب يوفر ممرات شرعية للوصول إلى البحبوحة.
ويبقى ما أنجزه فريق ترمب، حيث الجاليات العربية والإسلامية، وقد نجح هذا الفريق في تحقيق خرق في هذه الجاليات لأسباب عدة، أهمها الحديث عن وقف الحروب في المنطقة ورد ثقافة تيار الـ "ووك" التي ضربت في عمق التربية التقليدية داخل المدارس والعائلات المحافظة، وهكذا تحول ترمب من رئيس سابق ومقهور وملاحق إلى رئيس أميركا، وعاد من موقعه المعزول في فلوريدا ليأخذ أكثرية في مجلس المندوبين، وعاد تياره للسيطرة، ليس فقط على مجلس النواب مع وجود رئيس موال له، وإنما على مجلس الشيوخ، وهذا الانتصار المثلث سيعيد ترمب في الـ 20 من يناير (كانون الثاني) 2025 لبدء رحلة جديدة قد يتوجها بإنجازات كبيرة.
ترمب عاد ولكنه ليس ترمب الأول.