راغب جابر
يتداول اللبنانيون "حكاية إبريق الزيت"، والحكاية هي عبارة عن جملة مفادها "إن قلت أه وإن قلت لأ بحكيلك حكاية إبريق الزيت" وتتكرر العبارة من دون حكاية في الأصل، والمغزى البعيد لها هو تكرار الكلام بلا مضمون ولا فائدة. وحكاية إبريق الزيت هي حكاية اللبنانيين مع الكهرباء وحكاية وزراء الطاقة المتسلسلين، وآخر فصولها في الأيام الماضية ضجة حول العتمة الشاملة في لبنان نتيجة نفاد مخزون الفيول في محطات إنتاج الكهرباء التابعة لمؤسسة الكهرباء العائدة للدولة.
من الطريف جداً أن تقوم القيامة في البلد وأن تتصدر العتمة الشاملة نشرات الأخبار وتكتسح "السوشال ميديا" وكأنها حدث فريد ونادر في بلد فريد ونادر بين بلدان العالم. تعامَل الإعلام والمسؤولون والناس عموماً مع مسألة العتمة الشاملة وكأنها حدث يقع في نيويورك مثلاً أو في دافوس في سويسرا أو في طوكيو في اليابان أو في باريس أو لندن... كانت العتمة الشاملة كأنها حدث استثنائي في بلد كل شيء فيه استثنائي وخارج عن المألوف والطبيعي.
حكاية اللبنانيين مع العتمة الشاملة حكاية طويلة ومتكررة وتراوح مكانها، وما الضجة التي تثار كل مرة إلا زوبعة في فنجان، جعجعة بلا طحين، ككل الكلام الذي يسيل في البلد وعلى صفحات الصحف وفي المواقع الإلكترونية ومحطات التلفزة المتنافرة المتناقرة.
ليست المرة الأولى التي تتوقف مؤسسة كهرباء لبنان عن تزويد البلد بالتيار، ربما هي العاشرة أو العشرون أو الثلاثون. منذ عشرين عاماً تقريباً ولبنان عملياً يفقد التيار الكهربائي بشكل متصاعد، مؤسسة الكهرباء لا تغطي إلا جزءاً يسيراً جداً من الحاجة إلى التغذية بالتيار، واللبنانيون لم يعودوا يعتمدون عليها أصلاً. تبدو الضجة حول العتمة الشاملة في غير محلها تماماً لأن المواطن العادي لن يشعر بها في منزله ولا في مؤسساته. فقط بعض مؤسسات الدولة قد تستشعر غيابها وغيرها لن يهتم للأمر.
لم تعم العتمة الشاملة لبنان كما قد يمكن تصور الوضع، المؤسسة الرسمية توزع على المناطق بين ساعتين و4 ساعات يومياً، أي سدس ساعات اليوم في أحسن الحالات وليست كلها في أوقات الظلام، لم تتوقف الإنارة في المنازل ولم تتوقف المطاعم والملاهي عن استقبال روادها ولم يهجم اللصوص على المتاجر وينهبوها كما يحصل عندما تنقطع الكهرباء لدقائق في مدن العالم التي لا تنقطع فيها الكهرباء بسبب نقص الفيول - لأن الفيول لم يعد يستخدم لتوليد الطاقة في العالم ـ الفيول صار من الماضي في العالم الذي اخترع بدائل تتراوح بين الذرّة والرياح والشمس ومصادر أخرى تأتي تباعاً.
لبنان كله أصبح شركة لتوليد الكهرباء، المولدات الخاصة التي أصبحت مافيا أقوى من الدولة. حضر تيار الدولة أم لم يحضر لا حاجة له لدى غالبية اللبنانيين الذين سئموا كلام الوزراء المتعاقبين على وزارة الطاقة الذي يشبه حكاية إبريق الزيت (هل صدفة أن يكونوا كلهم منذ عشرين عاماً من التيار السياسي نفسه؟). منذ عشرين سنة تتوالى الوعود ومعها تتناقص ساعات التغذية. ويهب المسؤولون لتسول الفيول، والشكر لله أنه ما زال هناك بلدان عربيان يحنّان على اللبنانيين هما العراق والجزائر ببعض الفيول.
المواطن اللبناني غير معني كثيراً بالضجة حول العتمة لأن لا عتمة عملياً. اللبنانيون يدفعون فاتورة مرتفعة لأصحاب المولدات الخاصة، وليست تعرفة مؤسسة الدولة أرحم من تعرفة المولد الخاص، اشتراكات مؤسسة كهرباء لبنان وتسعيرة كيلواتها تماثل تعرفة المولد الخاص الذي يدور 24 ساعة متواصلة في معظم المدن والبلدات، اللهم في بعض الاستثناءات التي لم تتشبع بالمولدات بعد. وكل القرى اللبنانية باتت تنتج طاقتها ذاتياً بواسطة الألواح الشمسية وحتى مراوح الريح التي بدأت تشق طريقها إلى مناطق جبلية عديدة. ولكن أين تذهب الأموال التي تجبيها المؤسسة بالدولار من المواطنين؟ وأين هي القطبة المخفية؟
يظهر وزير الطاقة وليد فياض في الأزمات، يتحدث كأنه "رح يشيل الزير من البير" ويطلق وعوده متفاخراً بأنه أجرى اتصالات لتأمين الفيول للكهرباء في الأسبوع المقبل بمعدل ساعتين يومياً وصعوداً، لكنه لا يخبرنا أين كان قبل أن ينفد الوقود هو المعتاد أن يمضي صيفته يتشمس على البحر. ويأمر رئيس الحكومة التفتيش المركزي بإجراء تحقيق لمعرفة سبب الأزمة. والموضوع لا يحتاج لا إلى تحقيقات ولا إلى تفتيش. لا شيء مخفي في لبنان، لا في مؤسسة الكهرباء ولا في غيرها من المؤسسات. في كل مرافق الدولة يكاد المريب يقول خذوني (إلى الحبس) لكن لا أحد يأخذ أحداً لأن المريب محمي من فوق ومن تحت ومن كل الجوانب.
الحقيقة أن مؤسسة كهرباء لبنان برمّتها لم تعد مفيدة في ظل الفساد المستشري في إدارتها وفي مؤسسات القطاع العام عموماً، وربما هذا ما يُسعى إليه فتباع بقرش وفق نظام المحاصصة الطائفية القائم أو يعلن إفلاسها وتذهب خطوطها وعواميدها نهب الشركات الخاصة الطائفية والمناطقية التي ستنشأ على أنقاضها ويستثمر فيها أهل النظام جميعاً.
ليس لبنان في العتمة بل العتمة عتمة العقول.