فقط مليمترات قليلة بين الرصاصة ودماغ السيد دونالد ترمب كانت هي الفارق بين الحياة والموت، ربما شبه معجزة، لم يكن كثيرون ليصدقوها، حتى ذهب بعضهم إلى القول إن المحاولة على حياة الرئيس السابق ليست حقيقة بل هي مسرحية. وأُوضّح أنها حقيقة، وأن ما أنقذه هو الحظ.
قبل أزيز تلك الرصاصة حول أذن ترمب، كانت النخبة الأميركية قد وصلت إلى شبه اتفاق على أن أيّاً من الرجلين، جو بايدن ودونالد ترمب، لا يصلح - كلٌّ لأسباب مختلفة - أن يقود هذه الأمة الكبيرة، ولكن منذ متى كانت النتيجة النهائية في الانتخابات تقررها النخب، من يقرر النتيجة في أي انتخابات وفي أي بلد هم العامة، فمزاج العوام هو الفيصل، وكثيراً ما يختلف مع العقل والمنطق، يحكم المزاج الشعور العام بالرفض أو القبول، وتقرره العواطف التي يدغدغها الإعلام المدفوع بالمصالح.
مع إطلاق الرصاص على منصة ترمب، والصور المصاحبة في تلك اللحظة، سجل ترمب انتصاره شبة المؤكد - إلا إذا حدثت معجزة - فلم يعد بعد الآن بحاجة إلى خطابات نارية وحماسية تلهب المشاعر، هو كما صرح، سوف يبدأ بخطاب المواءمة، حتى يكسب المترددين حتى الآن.
العمل السياسي في الغالب يحمل المخاطر، أما في أميركا فيحمل مخاطر مضاعفة، منذ أن بدأت أميركا استقلالها ورسم دستورها في عام 1789 حتى اليوم، مر على الرئاسة 46 رئيساً (بعضهم أكثر من دورة، أو حتى في البداية أكثر من دورتين) في هذه الفترة الطويلة، تمت محاولة قتل أو حتى قتل، عشرة رؤساء، كان التواتر بطيئاً في البداية، ثم منذ مقتل جون كنيدي 1963 زاد التواتر بحساب بسيط في المتوسط، كل خمسة رؤساء، يقتل أو تتم محاولة قتل رئيس منهم، المخاطرة كبيرة، فضلاً عمن يُقتل قبل أن يصبح رئيساً، أي في أثناء السباق بين المرشحين قبل أن يسموا من قبل أحزابهم.
خلفية الأمر أن المجتمع الأميركي بسبب نشأته التاريخية قام على العنف، وصورتْ ذلك العنفَ طويلاً وبشكل تمجيدي أفلام الغرب، التي كان من بين أقطابها رجل المسدس الذي لا يقهر، جون وين، فقد كان البطل في تلك الأفلام هو القادر على سحب مسدسه أسرع!
هذا التقليد أورث حب البندقية، التي تطورت حتى أصبحت رشاشاً خفيف الحمل، خلفه صناعة كبرى، كان السيد ترمب من مؤيديها، وقد طاف في حملته الأولى على مخازن بيع الأسلحة وأشاد بمناقب صُناعها وتجارها، وقد كانت ولا تزال قضية بيع السلاح وحمله، قضية شائعة في معركة الانتخابات الأميركية.
الآن عرف ترمب مباشرة ودون وسيط، ما يفعله السلاح لدى المواطن الأميركي، الذي إذا حمله فلن يفرق بين الواقع والخيال السينمائي.
في الغالب ترمب هو الرجل القادم للبيت الأبيض، إلا إذا حدثت معجزة. وفي السياسة، المعجزات قليلة. يرى البعض أو يتخوف من أن يكون ترمب الثاني، هو ترمب الأول بسياسته نفسها في دورته الأولى، أفعاله غير متوقعة في السياسة العامة، وكثير الإثارة، وقليل الثقة من جانبه بمن يعمل معه، وتغيير دوري لرجال الإدارة، ذلك ممكن، ولكن الممكن الآخر قد يكون محتملاً، فهو مثل أي رئيس أميركي غير مؤدلج، لن يكون مهتماً بإرضاء الجمهور العام، لأنه لا يحتاج إليه بعد انقضاء دورته الثانية، فهو أصلاً رجل أعمال يهتم بتنمية ثروته، وهي الباقية له بعد مغادرة البيت الأبيض، حتى أفراد حزبه ليس مرتبطاً بهم ذلك الارتباط، فقد تنقل بين الحزبين الكبيرين باحثاً عن فرص سياسية، حتى وجدها في الحزب الجمهوري، وهو مقتنع بأنه إضافة للحزب وليس الحزب إضافة له.
لذلك؛ فإن التخوف قد يكون مبالغاً فيه، خاصة تجاه قضايا الشرق الأوسط، وقد يفاجئ الجميع باتخاذ قرارات سياسية غير متوقعة، وخارج السياق المعروف.
الكتب التي صدرت من رجال كانوا حول ترمب سواء في أثناء سباقه الأول ضد هيلاري كلينتون، أو في أثناء العمل معه في البيت الأبيض، أجمعت تقريباً على أن الرجل (تلقائي) لا يصغي كثيراً إلى نصائح الخبراء، حتى جون بولتون، اليميني المتشدد، لم يبق إلا بضعة أشهر مع ترمب، وكتب كتابه المعروف (كنت في الغرفة) يشرح التلقائية غير المقبولة عند المهنيين، ويذكّر العالم بمحاولته مع شمال كوريا، وموقفه من جائحة كورونا، حيث لم يلبس الكمامة قط!
الخطوط العريضة والثابتة للسياسات الأميركية الكبرى التي عرفها العالم، مثل تصدير الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، والهيمنة على العالم، تلفظ أنفاسها الأخيرة في الغالب، وتستمر المصالح الاقتصادية حاكمةً في العصر الترامبي الجديد.
آخر الكلام: كل الاحتمالات متوقع أن تحدث في الولايات المتحدة، في ضوء الانقسام غير المسبوق.