أكاد أجزم أنني لم أعش أياماً ساد فيها القلق العام كالأيام التي أعيشها الآن. حديثي هذا لا ينصب على بلدي، وإن كان له مثل غيره من البلاد، نصيب من هذا القلق. أكتب عن ظاهرة تجاوزت قُطراً بعينه، وإقليماً من أقاليم هذا العالم إلى العالم نفسه. أنا نفسي كنت ضحية هذا القلق، أو نموذجاً مصغراً من نماذج اكتشفت مع النقاش، والتشاور، والقراءة، أنها منتشرة على نطاق واسع.
غريب ما اكتشفت. كل، أو معظم من قابلت، أو قرأت، واستمعت لهم يتوقعون التغيير، وبعضهم يستعجله، فالقلق الذي يعيشون في ظله مستبد بهم، ومستحكم، ومتمدّد. أسباب القلق غير معروفة تماماً لعامة الناس، والمعروف منها للخاصة كافٍ لإثارة المخاوف والظنون، وكافٍ أيضاّ لإشعال، أو التهديد بإشعال حروب صغيرة وكبيرة. يتوقعون التغيير برهبة، وخوف، أو ينتظرونه بالأمل في قدر مختلف. وفي كل الأحوال، يستمر القلق في انتظار عالم جديد يخرج من وراء أحد أبواب، أو فرص التغيير.
توقع بعض علماء العلاقات الدولية أن تكون، وتبقى هناك، فرص بعينها أبواباً تنتظر من يفتحها ليطل على البشرية من ورائها نظام دولي جديد. وأظن أن النقاش الدائر حالياً في الغرب والشرق، على حدّ سواء، وهنا في بلادنا بين بعض المتخصصين في تطورات العلاقات الدولية، هذا النقاش تناول في أغلبه احتمالات غلَبة أي من الفرص على غيرها في إطلاق شرارة تغيير النظام الدولي الراهن، وأقصد تحديداً تغيير أنماط تفاعلات الدول فيما بينها، والقواعد والمؤسسات والمنظمة والحاكمة لهذه التفاعلات، وأنماط التحالفات، والإمكانات الصلبة والرخوة المتوفرة لأقطاب النظام. أما الفرص، وأغلبها ممكن في الظروف الراهنة، وبعضها أكثر من غيره متاح بالفعل، فهي في ظني، وفي رأي بعض الزملاء، مطروحة فعلاً، والنقاش حولها دائر بصيغة، أو أخرى. هي الآتية كعناوين لأزمات راهنة، وكمصادر للقلق العام.
{ أولا: كثيرون، وفي صدارتهم الصديق عمرو الحمزاوي، يعتقدون أن العالم في وضعه الراهن أشبه ما يكون بالفترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية. من علاماتها: (1) عناصر تدهور نظام دولي قائم وبروز نظام آخر مختلف كلية. انهيار نظام توازن القوى نهائياً. (2) مرحلة ظهور تيارات وحركات سياسية، كالفاشية والنازية، مدفوعة بذرائع وطاقة الدعوة لإعادة بناء الدولة القوية (هتلر وألمانيا النازية، وترامب وفلسفته في الحكم)، أو احتلال موقع مؤثر استناداً إلى ذرائع، تاريخية أو دينية (موسوليني وإيطاليا الفاشية يقابلهما نتنياهو وفلسفة الجماعة الصهيونية). (3) سقوط مدوٍّ لقواعد مؤسسة للنظام الدولي (هيمنة قطب أوحد، وحروب إبادة أوروبية في إفريقيا، تقابلها حرب إبادة إسرائيلية أمريكية دائرة الآن في فلسطين). (4) صعود قطب جديد بأيديولوجية توسعية (صعود الاتحاد السوفييتي بأيديولوجية معاكسة للرأسمالية واستراتيجية توسعية في أوروبا بخاصة يقابله في المرحلة الراهنة صعود الصين وانحسار قوة الولايات المتحدة باعتبارها القطب المهيمن).
{ثانياً: لاحظ معي أن الأخذ بهذه السابقة في تحليل التطورات الدولية الراهنة يأخذنا حتماً، إلى نهاية قد تبدو للبعض حتمية، وهي أن العالم على شفا حرب عالمية ثالثة. يسوق هذا البعض الحجج التالية، أو واحدة منها على الأقل. (1) أمريكا لن تتنازل سلمياً، عن هيمنتها ومكانتها، فالمصالح العائدة من وراء هذه الهيمنة هائلة، وغير مسبوقة تاريخياً. (2) روسيا والهند كلاهما لن يقبل بأقل من نظام دولي متعدد الأقطاب. (3) تايوان وكوريا الشمالية بؤرتان جاهزتان لتفجير الحرب في الوقت المناسب، والصهيونية العالمية لن تقبل بأقل من الهيمنة الكاملة، والمنفردة إن لزم الأمر، في الشرق الأوسط.
{ثالثاً: يلي هذين الاحتمالين احتمال أن يقرر قطب من أقطاب النظام الدولي الراهن، وأقصد تحديداً الصين من ناحية، والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى والاتحاد الروسي من ناحية ثالثة، تغيير وضعه ومكانته في النظام (أ) كأن تقرر الصين الانسحاب من السباق الدائر على القمة، (ب) أو يقرر الاتحاد الأوروبي التحول إلى قطب منافس في حد ذاته منفصلاً عن أمريكا، إذا استمرت هذه الأخيرة في انحدارها، (ج) أو تقرر روسيا النزول بكل قوتها ونفوذها في دول وسط آسيا، قطباً دولياً ثالثاً في نظام دولي متعدد الأقطاب.
{رابعاً: في زمن كالذي نعيش فيه، لا يجوز أن نستبعد احتمال وقوع كارثة بيئية تؤثر تأثيراً حاسما في توازن القوى بشكله الراهن. نشهد الانتقال المفاجئ من حالات جفاف رهيب إلى حالات طوفان أنهار، وبحار، وأمطار، ينتج عنها خراب وهلاك في إمكانات الدول البشرية والإنتاجية والعسكرية. حالة من هذه الحالات، وبالتحديد حالة انتشار وباء أو مرض فتاك، يمكن أن تتسبب بإزالة صفة القطبية عن دولة عظمى.
{خامساً: لم يعد جائزاً إغفال الاحتمال القائم نظرياً والبعيد، علمياً وواقعياً، والخاص بالحروب الكونية. نستبعدها إن كنا نناقش فرضية وجود عوالم أخرى توصل أكثر من عالم منها إلى تشكيل قوة تسمح له بغزو كوكب الأرض.
لا شك في أن تجربة السنوات الأخيرة من سباقات القوة بين أقطاب النظام الدولي القائم توحي بصعوبة أن يتحقق بديل في أمريكا يناسب تطلعات الآباء المؤسسين، وبعض ممن جاء بعدهم، فالفاقد في أمريكا سنوياً خلال العقود الأخيرة يتجاوز المتحقق من إنجازات، وما لم يتوقف فوراً هذا النزيف في قوة أمريكا الكلية، بخاصة في نوعية وثقافة النخبة السياسية، وفي كفاءة واستقلالية العملية السياسية، سوف يكون من الصعوبة بمكان توقع، أو انتظار استعادة أمريكا لمكانتها وهيبتها، في الأجل المنظور.