يتقدم اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن كل الأحزاب في الانتخابات النيابية الفرنسية بعد انتخابات البرلمان الأوروبي. الرئيس إيمانويل ماكرون في الزاوية. أوروبا واقعة تحت إغراء اليمين المتطرف بعد ثلثي قرن من الانتصار على الفاشية والنازية. هكذا بدا المشهد بعد الانتخابات في الاتحاد الأوروبي، إذ حصد اليمين المتطرف النسب الأعلى. وأين؟ في بلدان أساسية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمجر وبولندا وسلوفاكيا والنمسا والسويد، لكن الواقع، على رغم ذلك، أن الوسط صامد.
قوى الوسط ويمين الوسط ويسار الوسط حازت 64 في المئة من المقاعد. حزب الشعب الأوروبي أي يمين الوسط فاز بـ189 مقعداً نيابياً، والاشتراكيون والديمقراطيون أي يسار الوسط فازوا بـ135 مقعداً. والمفارقة التي أشار إليها الأكاديمي والفيلسوف فرانسيس فوكوياما في أميركا تكررت في أوروبا، بصرف النظر عن رأي المؤرخ الأميركي روبرت كاغان القائل، "الأميركيون من مارس والأوروبيون من الزهرة. الأميركيون صاروا تاريخيين، والأوروبيون خرجوا من التاريخ".
فوكوياما رأى أن الأزمات الأخيرة هي "نتاج الرأسمالية المالية التي لا ضابط لها" وبدلاً من أن يقول ذلك إلى صعود موجة اليسار أدى إلى صعود موجة اليمين الشعبوي. والنخبة الأوروبية أصيبت بالهلع وهي ترى تقدم التجمع الوطني بزعامة مارين لوبن في فرنسا وحزبي "فيدس" في المجر و"الحرية" في النمسا وسواها في بلدان أخرى.
الفيلسوف الأميركي أعاد السبب في الولايات المتحدة إلى "فشل اليسار، لا في الأفكار، بل في إنه لم يجد بديلاً من فشل اليمين الليبرالي سوى العودة إلى النموذج القديم". والنخب الأوروبية أعادت السبب إلى أمور عدة، أولها زوال الهامش بين اليسار واليمين. يسار الوسط يتبنى برنامج يمين الوسط الذي أخذ شيئاً من اليسار المعتدل وزاد في النيوليبرالية، كما أخذ الطرفان أشياء من شعارات اليمين المتطرف ضد الهجرة. وفي مثل هذه الحال ذهب الناخبون إلى اليمين الأصلي بدل اليمين المزيف، وبعضهم ذهب إلى اليسار المتشدد بدل اليسار الرخو.
أما ثاني تلك الأمور فهو كثافة الهجرة، لا سيما من بلدان يصعب على الطرفين التأقلم مع الحياة فيها على الطراز الأوروبي. ومن حيث كان التصور أن أوروبا قادرة على تغيير المهاجرين ورفعهم من التشدد إلى الاعتدال، فإذا ما حدث هو العكس. مزيد من التطرف واللجوء إلى الإرهاب من جانب الجيل الثالث من المهاجرين، الذي تعلم في المدارس الأوروبية.
ثم ثالثها لجوء قادة الأحزاب ومعظم السياسيين إلى الشعبوية التي "ليست أيديولوجيا بل هي تكتيك للحصول على السلطة" بحسب الكاتب مويزي نعيم. ورابعها عجز أوروبا عن الدفاع عن نفسها من دون القوة الأميركية، إذاً هي "قوة في العالم، لكنها ليست قوة عالمية"، وفقاً لسيمون سيرفاتي من مركز الدراسات الاستراتيجية في وارسو، وخامسها حساسية الأوروبي العادي تجاه الطرف الأميركي وما يبدو كأنه هيمنة أميركية سياسية واقتصادية وثقافية على القارة العجوز التي كانت مركز الفكر والحضارة.
يقول وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان في كتاب "الانفصالية الإسلامية"، إن "الإسلامية أقوى أيديولوجياً في عالمنا المعاصر، وهي حصان طروادة وقنبلة عنقودية ستفجر المجتمع الفرنسي". وهذا ما دعا حكومات الرئيس إيمانويل ماكرون إلى التشدد ضد التيارات الإسلاموية المتطرفة، التي يمارس بعضها الإرهاب، لكن العجز عن المواجهة وسط الميل السلطوي إلى التردد في تطبيق القانون يدفع الناخبين إلى التشدد والتصور أن اليمين المتطرف هو الحل.
والسؤال الآن، هل اليمين المتطرف هو الحل بالفعل؟ والجواب البسيط هو: كلا. فليس لدى اليمين المتطرف مشروع اقتصادي واجتماعي جدي قابل للتطبيق. وحين تصل أحزاب اليمين المتشدد إلى السلطة فإنها تتخلى عن كثير من شعاراتها وتصبح مثل اليمين العادي الفاشل. وليس لدى المتطرفين خطة فعلية مقبولة لمعالجة الهجرة وقضايا طالبي اللجوء. وأقل ما ينقص قادة اليمين المتطرف هو الخبرة التي لا بد منها في إدارة شؤون الناس والدولة وتحقيق أي شعار قابل للتحقيق. فلا الكبار في السن منهم تجربة في العمل الحكومي والإداري، فضلاً عن صغار السن منهم ولا الذين حكموا ويحكمون اليوم من قادة اليمين المتطرف قادوا شعوبهم إلى تحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وجعلوا دولهم قوية في مواجهة التحديات.
حتى من ربح الانتخابات على أساس برنامج قوامه الخروج من "الناتو" ومن الاتحاد الأوروبي، فإنه عاد للانتظام ضمن قواعد الحلف لجهة زيادة الإنفاق العسكري إلى اثنين في المئة من الناتج القومي بحسب الطلب الأميركي، وبالغ في الحماسة للاتحاد الأوروبي والسخرية من بريطانيا التي خرجت من تكتل اليورو بعد حملة صورت للبريطانيين أنهم خارجون من كابوس إلى حلم، فإذا بهم في كابوس من دون حلم.
من الأقوال الشائعة إن هناك غرباً ثقافياً واقتصادياً وليس هناك غرب استراتيجي، لكن اليمين المتطرف متأخر جداً حتى عن أفكار الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون اليمنية وليس مؤهلاً لإنتاج غرب استراتيجي، ولا بالطبع لتحسين حال الغرب الثقافي الذي جاءت أفكاره وإبداعاته في معظمها من اليسار. ولا أسرار في دعم الرئيس فلاديمير بوتين لليمين المتشدد في أوروبا. فالتمويل لبعض نشاطات التجمع الوطني في فرنسا جاء بالاقتراض من مصارف روسية. والحزب الوحيد الذي قاطع خطاباً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البوندستاغ الألماني كان حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي يمثل النازية الجديدة. والمسؤول الذي يعرقل في الاتحاد الأوروبي المساعدات لأوكرانيا هو رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان صديق بوتين الذي يراه ماكرون "خطراً على أوروبا".
وليس من السهل، مهما يكن إغراء الشعبوية، العودة من مرحلة ما بعد الحداثة إلى مرحلة ما قبل الحداثة. ومن الحقبة الليبرالية إلى حقبة هتلر وموسوليني والجنرال فرانكو. فلا العلاقات الأوروبية مع روسيا بسيطة وقليلة التعقيد ولو حدث سلام في أوكرانيا. ولا العلاقات مع الصين يمكن حصرها بالتجارة والرسوم الجمركية. ولا العلاقات مع الحليف الأميركي صاحب المظلة النووية فوق أوروبا خالية من الأزمات والخلافات في وجهات النظر. والعالم اليوم أشد تعقيداً من أن يكون اليمين المتطرف هو الحل الوحيد لتحدياته المتعددة.