أتذكر حادثة وقعت قبل سنوات عديدة. أحد المقتدرين أطلق في حديث معه أحكاماً مهينة وقاسية على الطبقة الفقيرة وغير المتعلمة. من الواضح أنه يشعر بالتعالي الممزوج بالاحتقار لها. وحمدت الله حينها أنه ليس مسؤولاً في الدولة يعنى بشؤونها.
وفي المقابل، تعرفت على رجل آخر يهاجم الأثرياء والمقتدرين ولم يساورني أي شك أنه يفعل ذلك لسببين. الأول أنه لم يستطع أن يكون واحداً منهم، أي أنها دوافع حسد خالصة ورغبة في إيجاد العذر للذات، عبر تلطيخهم وتحويلهم إلى كبش فداء بغية التطهر الذاتي وإحساس الرضا عن النفس، والسبب الثاني من باب المزايدة وكسب مزيد من الشعبية والصيت على اعتبار أنه نصير للفقراء والمستضعفين.
ولكن بين هذا المتعالي والشعبوي، يمكن أن يقدم الكثير للطبقات المنسية في الدول العربية. ماذا نعني بالطبقات المنسية؟ هي الطبقات المهمشة التي تبحث عن فرصة لكي تصعد في سلم الحياة، ولكنّها لا تحظى بالدعم الصحيح.
كيف يمكن أن يحصل هذا الدعم؟ ليس من خلال توزيع المال والصدقات والتبرعات الخيرية، ولكن عبر التعليم القوي والتغيير الثقافي. هذا ما يحتاجه الأطفال المنسيون في دول عربية عديدة. أن يحظوا بتعليم ومهارات عالية تساعدهم على النجاح في حياتهم العملية وبالوقت ذاته ينشأون في ثقافة تتبنى قيم الانفتاح والاختلاف والتنوع.
ولكن ماذا نرى حالياً على منصات التواصل الاجتماعي؟ التنابز بالألقاب والجنسيات والمذاهب والأعراق بشكل يدعو للخجل. أي متطرف أو مشعوذ قادر على تجييش عشرات الآلاف بسهولة ويتلاعب بهم إذا ردد شعارات دينية ووطنية وقومية مزيفة. أخبار كاذبة وإشاعات مغرضة تنتشر بسرعة وتتحول إلى حقائق في دقائق. نرى حوادث بسيطة تشعل الخلافات بين شعوب يفترض أن تربطها روابط الثقافة واللغة، وقبل كل ذلك الرابطة الإنسانية. وفي كل الأحوال ومهما حاولت هناك مَن يزايد عليك دينياً ووطنياً وأخلاقياً. والمفارقة أن هذا المُزايِد ستجد مَن يزايد عليه.
كل هذه الظواهر السلبية تنتشر على امتداد الدول العربية وبالطبع لا نعمم، ولكنها موجودة. وشخصياً لا يمكن أن ألوم هؤلاء الناس ولا أنتقدهم وكلنا لدينا المشاكل نفسها بدرجات متفاوتة، ولكن الأهم هو مناقشة الأسباب العميقة وليس الأعراض. برأيي أن الإشكالية واضحة وهي أننا ننشأ في بيئات تعليمية لا تساعد على بناء الشخصيات وأن نظهر أفضل ما فينا بل على العكس. لو أتيت بطالب نرويجي وأدخلته في مدرسة تحرّم منهج التفكير الحر وتمنع تدريس المنطق والتاريخ وتحرمه من تعلم اللغات، وتشحنه بالكراهية الدينية والمذهبية والتفوق العرقي ولا تعلمه القراءة، من الطبيعي أن يخرج منغلقاً ساخطاً غاضباً بلا مهارات وينظر للحياة بسوداوية. وقد اقترحت في مقال سابق بعنوان «ماذا يفعل وزراء التعليم؟!» بعض المناهج التعليمية التي تهدف إلى بناء الشخصية لأن هذا هو الهدف الأساسي من التعليم.
والشيء ذاته يمكن أن نقوله على الثقافة الاجتماعية التي ينغمس فيها الفرد منذ طفولته. يقول علماء النفس إن بنية الطفل النفسية تتشكّل في عُمر مبكر وتستمر معه لسنوات. إذا انغمس الطفل في ثقافة تدعو للتعايش والتسامح سيخرج بلا شك متسامحاً ومنفتحاً ويخلو قلبه من الأحقاد والكراهية والعكس صحيح. ولكن التغيير الثقافي مسألة ليست سهلة وبحاجة إلى أجيال كي تتغير لأن كل جيل يورثها للأجيال التي تصغره. ولكن تدخّل الدولة يسهم في إحداث تغيير سريع عبر وقف دعاة الكراهية ومنعهم من التأثير في الأجيال، وتقديم قيادات دينية وفكرية تتحلى بالعقلانية والواقعية في قراءة الدين وفهم العالم المعاصر، بالإضافة إلى تسليحهم بالمهارات الضرورية للنجاح في الحياة. وأكبر مثال كيف غيّرت الدولة في السعودية الثقافة خلال سنوات قليلة. منحت فرص النجاح لشرائح اجتماعية واسعة من بينها النساء. وسابقاً لم تتطور سنغافورة إلا مع تطور التعليم وغرس قيم التعايش والتسامح في الثقافة، ومن بعدها تغيرت بشكل كامل حتى هذا اليوم.
ويخطئ البعض في الاعتقاد أن إدمان الصغار على مواقع التواصل سيغيرهم. تغيير الأفكار العميقة ليس بهذه السهولة، بل سيجد هذا المراهق في «تيك توك» أو «إكس» المحتوى الذي يعزز لديه أفكاره المسبقة، ولا ننسى أن مهارة المتطرفين في التسرب إلى منصات التواصل أسرع من غيرهم، والترويج لأفكارهم. وإذا عدنا للمتعالي فهو يريد بكل تأكيد أن ينغمس هؤلاء الصغار المساكين في بيئة لا تشجعهم على النجاح حتى يتلذذ بشتمهم والحط من قدرهم. والشعبوي يريد أن يستخدمهم ويهاجم الحكومات حتى يزيد من شهرته. بينما الواقع والحل السريع والأفضل هو: امنحهم مهارات التعليم العلمي والعملي، واغمسهم بثقافة إنسانية واتركهم بعد ذلك يسبحوا في الحياة، وأغلب الظن أنهم سينجون.