ما الذي حدث للتقنية في مطلع هذا القرن، فقد صاحبها تحولات كبيرة وما نعيشه اليوم من «تهديد» للذكاء الاصطناعي لكل المهن التقليدية التي نعرفها هو نتيجة لتحولات متلاحقة لكنها كانت بطيئة نوعا ما. من المتوقع أن تترك هذه التطورات تغييرات عميقة على أنماط الحياة التي نعيشها والمحيط المادي العمراني الذي يحتويها لكن هذه التغيرات ستبقى في الجوانب المادية ولن ترتقي بحياة الناس على المستوى الاجتماعي والثقافي. في مجال العمارة، لا يزال التفكير بطيئا من الناحية التقنية، إذا ما استثنينا برامج الرسم التي صارت تتطور بسرعة مدهشة. أحد الملاحظات التي تنبهت لها هي أن التطور التقني أثر على الجوانب المادية الشكلية أكثر بكثير من الجوانب الثقافية، ويظهر هذا في طريقة التفكير المعماري التي لم تستطع حتى الآن أن تستجيب للتقنية كأسلوب للتفكير يصنع أسلوب حياة جديدة. أنا على يقين أن البعض قد يعترض على هذه النتيجة، وقد ذكرت في مقال سابق أن التقنية سوف تصنع عمارة تتميز بالعزلة الاجتماعية، لكن هذا لم يمتد إلى «النظرية المعمارية» حتى الآن، فما يحدث اليوم هو تطور في وسائل إنتاج المخططات المعمارية وليس محتواها الثقافي والاجتماعي.
كل مرحلة جديدة تؤسس لوجودها، سواء في العمارة أو الفنون أو حتى في العلوم. لقد ظهرت عدة انزياحات في المناخ المهني المعماري على مستوى العالم وصاحب العقد الأول من الألفية الثالثة تحولات كبيرة على المستوى السياسي والاقتصادي. وكما هو معروف أن كل تحول سياسي يأتي معه تحولات كبيرة على المستوى الإداري والاجتماعي، وإذا ما توفرت الموارد المالية غالبا ما يحدث تغيير عميق في العمارة، ونقصد هنا أنه تتسع مساحة التجريب المعماري وتزداد الجرأة لاختبار الأفكار الجديدة. على أن التجريب ظل محصورا في الجانب المادي التشكيلي ولم يتعداه إلى الجوانب التي تهم حياة الناس الاجتماعية والثقافية.
كان العالم يستعد لاستقبال عمارة جديدة، خصوصا بعد «جوجنهايم بالباو» في إسبانيا (العقد الأخير من القرن الفائت) الذي وظفت فيه البرامج الحاسوبية لتصميم الطائرات ليعلن عصر جديد للعمارة مغاير لأي عصر سابق، ويفتح عمارة النجوم على مصراعيها. فمنذ ذلك الوقت أصبحت البرامج الحاسوبية المتطورة هي الأساس الذي يعتمد عليه تخليق الأشكال المعمارية غير المتوقعة. التطور لم يكن فقط في البرامج الحاسوبية بل امتد كذلك إلى تصنيع المواد من خلال استخدام تقنيات النانو وتطوير التكسيات والنظم الإنشائية بمواد وأساليب لم تكن ممكنة في السابق. هذه القفزة التقنية أعطت كثيرًا من المصممين ثقة وجرأة كبيرة للتعامل مع أي شكل معماري غير مسبوق. يبدو، كذلك، أن مبادئ التفكيكية التي ارتبطت بشكل عضوي مع الحداثة المتأخرة دفعت المعماريين والمصنعين إلى المغامرة التشكيلية لخلق عمارة لا تخطر على البال.
يجب أن نعترف أن التقنية صارت تقود العمارة، رغم أن العلاقة في السابق كانت متوازنة وكانت للعمارة إسهاماتها الكبيرة في تطوير التقنية، لقد حدث افتتان بالتقنية ومنتجاتها المادية أنسى المعماريين وغيرهم الجوانب الإنسانية الأكثر أهمية. هذا التحول نحو التقنية الفائقة التطور جعل هامش المعماريين في الإضافة محدودا جدا وتحولت العمارة إلى التشكيل المحض الخالي من معاني المكان وثقافته. مقابل هذا التطور كان هناك تراجع حاد على مستوى «النظير» المعماري، فقد اختفت التجارب الفكرية الكبرى التي ميزت الربع الأخير من القرن العشرين، واختفت بهذا المحاولات الجادة لخلق حلول عمرانية اجتماعية. التركيز على الشكل والمواد ترك نتائج عميقة على التأثير الذي كانت تحدثه الأفكار الاجتماعية والثقافية الكبيرة التي قادها مجموعة من المعماريين والمفكرين، حتى على مستوى التعليم المعماري صار يتجه إلى «التشكيل» أكثر من الحلول الاجتماعية المؤثرة التي يمكن أن تغير من حياة الناس.
ثمة اتفاق على أن الأساس في العمارة هو التغيير والتطور، وأن أي توجه أو طراز معماري هو عرضة للفناء، سوف نجد أن هناك مبررا لهذا التحول الدائم. هذا، في حد ذاته، يفرض على متتبع تطور الأفكار العمرانية والمعمارية أن يبحث في مسببات وجودها. يرى «بجارك انجلز» Bjarke Ingels أن «العمارة على وشك أنها تحاول أن تجعل العالم أقرب إلى أحلامنا». ويؤكد على أن كل مبنى جديدا يغير من شكل وهوية البيئة التي يقع فيها. هذا يجعلنا نقول إن العمارة، لا تسعى فقط تغيير شخصيتها بل تغير ما حولها، لكن في الواقع أن هذا لم يحدث بل صارت جميع المحاولات تتجه لإنتاج الأشكال على حساب تطوير حلول اجتماعية.
إعادة التموضع المعماري الذي بدأ واضحا في العقدين الأخيرين أمرا متوقعا، على أن إعادة التموضع المعماري وملاحقة الأفكار والتقنيات الجديدة لم يقابله تموضع عمراني واضح، فلا تزال العمارة مشتتة على المستوى العمراني، وهذا التشتت قد يحتاج إلى مراجعة مباشرة وإعادة ربط «اركيولوجية» المدينة المعماري ومساراتها الزمنية بمحاور بصرية ومكانية. على أن التقنية لم تساهم بشكل واضح في تطوير المدينة وإعادة تنظيمها على المستوى الاجتماعي والثقافي، وإن كانت ساهمت بشكل واضح في تنظيمها العمراني وفي إدارتها. يجب أن نضع في اعتبارنا أن جذور التطور التقني مرتبط بالثقافة والفلسفة المادية وزيادة مساحة الاستهلاك، وهذه الجذور سوف تدفع البشرية إلى مزيد من التطور المادي لكن مع تراجع مستمر في الجوانب الاجتماعية والثقافية وهذا ما ينتظرنا في هذا القرن «الصعب».