: آخر تحديث

التيارات اليمينية في أوروبا

4
4
4

منذ انطلاق الإسلام في القرن السابع الميلادي كانت أوروبا، ممثلة في الدولة الرومانية التي كانت تلتف حول عنق الجزيرة العربية من ناحية الغرب، لا تلقي بالاً بتلك الجزيرة الصحراوية، ولا بساكنيها.

لكنها استشعرت الخطر عندما اشتد ساعد العرب، وأصبحت هناك دولة لها قيادة وجيش، وتسعى للتواصل مع ما حولها من دول، لكن الإرث القديم كان مسيطراً على عقلية الرومان، فهم يرون العرب، في ذلك الوقت، لا شوكة لهم، يسهل القضاء عليهم من دون جهد يذكر، لكن، وبعد معارك كبرى بين الطرفين تقلص نفوذ الدولة الرومانية في بلاد الشام ومصر، وبدأ الإسلام يكسب أرضاً جديدة كل يوم، وعاماً بعد عام بدأ يزحف تجاه أوروبا التي كانت مستهدفة بفتوحات المسلمين لأنها كانت مركز الدولة الرومانية، التي كانت قوة عالمية كبرى في ذلك الوقت.

وقد نجح المسلمون بالدخول إلى أوروبا عبر مضيق جبل طارق في بلاد المغرب، بعد أن أصبح شمال إفريقيا يدين بالولاء للدولة الإسلامية المركزية في دمشق، والتي كانت ذات يومٍ إحدى قلاع الرومان الحصينة، وتوغلوا في بلاد الغوت الغربيين وسيطروا عليها حتى أقصاها، لكن فتوحاتهم توقفت عند جبال البيرينيه من الشرق بعد أن اصطدمت بقوة الكارولنجيين في فرنسا، ما أدى إلى تراجع زخم الفتوحات وتوقفها، ومن ثم بدأت حركة الاسترداد الإسبانية منذ القرن التاسع الميلادي واستمرت حتى جلاء المسلمين عن غرناطة في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وعادت إسبانيا دولة مسيحية كما كانت من قبل، رغم الحضارة التي أسسها المسلمون والتي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم في قصورها وجامعاتها وعلمائها وعمارتها.

ولم يكد الإسلام ينتهي من الغرب حتى فاجأهم من الشرق عبر الدولة العثمانية التي استمرت قروناً وكان لها صولات وجولات في قلب أوروبا، وما المسلمون في إقليم البلقان إلا نتاج ذلك العهد، لكن الدولة العثمانية تقلصت هي الأخرى، وتم تقليم أظفارها في بدايات القرن الماضي، وعادت أوروبا لتحافظ على ثقافتها ولعبت الكنيسية الكاثوليكية دوراً«محورياً» في الصراع طوال تلك القرون الماضية.

لكن ظهور حركة الإصلاح الديني، ومن ثم الثورة العلمية قد جعلت دول غرب أوروبا تميل نحو الانفتاح بعد استقرار نظمها السياسية وانبعاث روح إنسانية فيها تدعو إلى وحدة الشعوب والتقريب بين الثقافات، وقد نتج عن ذلك هجرة ملايين المسلمين من العالمين العربي والإسلامي إلى أوروبا منذ مطلع القرن العشرين وصاروا يشكلون جزءاً من الوعي والثقافة الأوروبية. لكن التراجع الاقتصادي الذي حدث في الغرب منذ مطلع القرن الحالي قد دفع شعوب أوروبا العودة إلى الانغلاق؛ من خلال رفض الآخر وتحميله أسباب الإنهاك الاقتصادي، وتقلص الفرص الاقتصادية أمام الأوروبيين.

وقد سمحت الديمقراطية في تلك الدول لظهور تيارات يمينية، على مضض، تبنت غضب الغاضبين وسخط الساخطين تجاه الإسلام والجاليات المسلمة التي تم تحميلها وزر ما يحدث، وقد أصبحت تلك الأحزاب جزءاً من الحياة السياسية في معظم دول أوروبا، ولا سيما تلك التي تدّعي رسوخها الديمقراطي كفرنسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا، وأصبح شعار هذه الأحزاب هو طرد المهاجرين وعلى رأسهم المسلمون، وقد تم الربط بين الإسلام وبين ما يسمى (الإرهاب) في خطاب تلك الأحزاب، لكن موقف الكنيسة الكاثوليكية كان مغايراً، حيث رفض البابا فرنسيس الربط بين الإسلام والإرهاب إثر موجة العنف التي حدثت في بعض دول أوروبا خلال العقد الماضي.

لكن معاداة المسلمين واصلت صعودها وأصبحت تمثل خطراً «وشيكاً» قد يحدث ضد هؤلاء، وفي ظل تنامي تلك الموجة الخطيرة التي تنذر بحرب دينية بين الشرق والغرب فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 مارس (آذار)2024 قراراً بشأن مكافحة كراهية الإسلام، ويدين القرار أي دعوة إلى الكراهية الدينية والتحريض على التمييز والعداوة وذلك بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة كراهية الإسلام أو (الإسلاموفوبيا). وذلك بموافقة مئة وخمس عشرة دولة، فيما امتنعت أربع وأربعون دولة على التصويت من بينها غالبية دول أوروبا، وعلى رأسها بريطانيا، فرنسا، هولندا، السويد...والنمسا ودول أخرى، ويُعدّ امتناع تلك الدول، التي تدعو إلى الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، على التصويت لصالح القرار يمثل انتكاسة حضارية بسبب صعود التيارات اليمينية في تلك الدول.

لا شك أن استمرار التراجع الاقتصادي في أوروبا والغرب بشكل عام جراء الصراع مع الصين وروسيا سوف يزيد من مظاهر العنصرية ضد كل المهاجرين في أوروبا وفي مقدمتهم المسلمون، ما قد يؤدي في النهاية إلى زيادة المخاطر وربما التهجير القسري، لكن قد يحول دون ذلك وجود عدد من المناوئين لتلك التيارات اليمينية من اليسار الأوروبي، والأحزاب السياسية التي ترى في ذلك اليمين عودة إلى الفاشية التي مزقت أوروبا من قبل، وأدخلتها في حروب طاحنة.

فهل تعود أوروبا ذلك الحلم الجميل، أم تصبح «كابوساً» يقضّ مضاجع شعوبها التي فقدت الأمل بغد أفضل، وأضحت تعد الساعات والأيام «خوفاً» من القادم المجهول الذي قد يأتي على إرثها الحضاري وربما يأتي عليها بالكامل؟ خاصة بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي سجلت صعوداً لليمين المتطرف، ما سيؤدي إلى تشكيل التحالفات وتأثيرها في التشريعات والسياسات الأوروبية المستقبلية.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد