: آخر تحديث

«غزوة» بوتين لكوريا الشمالية

9
8
9

دقّت معاهدة الشراكة الشاملة بين روسيا وكوريا الشمالية مسماراً آخر في نعش النظام العالمي المتهاوي، وضاعفت من قلق القوى الغربية، وزادت من ارتباكها، ومع هذه المعاهدة بدأ يتضح مسار فكرة التعددية القطبية التي تتعزز يوماً بعد يوم، وتكاد تصبح حتمية تاريخية تهزأ بمن يجرّون إلى الخلف.

بعد أشهر من التكهنات، والفرضيات، والحسابات، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بزيارة رسمية إلى كوريا الشمالية، وعقد مع زعيمها كيم جون أون، قمة لم تشهدها بيونغ يانغ في تاريخها الحديث، من جهة مضامينها، وأهدافها، وأبعادها الاستراتيجية، وهي في السياق العالمي الجاري لا يمكن الاستهانة بها، أو التقليل من شأنها، فضلاً عن تأثيراتها في العلاقة المتوترة بين البلدين، والقوى الغربية. فهذه المعاهدة، وإن كانت غير ضرورية لموسكو، فإنها مكسب لا مثيل له بالنسبة إلى بيونغ يانغ، التي تخضع لعقوبات أمريكية مزمنة، وتعيش عزلة دائمة، وتريد أن تكون لاعباً وازناً في إقليمها بدعم مباشر من الصين، وتحالف شبه منجز مع روسيا.

وبعد التوقيع قال كيم جون أون «لقد تغير الزمن، وضع كوريا الشمالية وروسيا في بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغير أيضاً»، بينما أشار بوتين إلى أن أحد بنود المعاهدة ينص على تقديم المساعدة في حال تعرض أحد طرفيها لعدوان. وربما يكون هذا البند الأكثر إزعاجاً للولايات المتحدة، وحلفائها، ورداً مباشراً بالغ الدلالة، على مساعي القوى الغربية تزويد أوكرانيا بأنظمة أسلحة عالية الدقة بعيدة المدى، ومقاتلات «إف-16»، وغيرها من الأسلحة والمعدات المماثلة لشن ضربات على الأراضي الروسية.

وسبق للرئيس الروسي أن حذر من تبعات هذه الخطوة، ولوّح مرات عدة، بتسليح أطراف دولية مناوئة للغرب لاستهداف مصالح دوله. وقد وقف كثير من المتابعين على هذا التلويح معتبرين أنه تعبير عن نفاد الصبر الروسي، وتنفيذ هذه الخطوة سيجعل من جيوش دول عدة، منها كوريا الشمالية، أكثر فتكاً وقدرة على التصدي للسياسات الغربية، ويسرّع بتقويض أسس هيمنتها على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن هذا المنظور، فإن زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية ليست إلا غزوة من حرب كبرى تدور الآن لتشكيل نظام عالمي جديد، ورد فعل جيو سياسي ذي ارتدادات بعيدة المدى، ومقدمة لرسم خرائط تحالفات فعالة، استعداداً للحسم المتوقع.

في تغطيته لزيارة بوتين إلى بيونغ يانغ، لم يتخل الإعلام الغربي عن عقدة شعوره بالتفوق، والتعالي، ووصف البلدين، روسيا وكوريا الشمالية، بأنهما دولتان معزولتان، ويخضعان لعقوبات أحادية الجانب من الولايات المتحدة، وحلفائها، لكن بوتين وكيم أبديا تجاهلاً لهذه العقوبات التي أصبحت مثيرة للسخرية وارتدّت وبالاً على فارضيها، مع إفلاس تاريخي، وارتفاع غير مسبوق في نسب المديونية، وزلازل سياسية عنيفة أحدثها في أوروبا، مثّلها صعود اليمين المتطرف. وفي غياب الاعتراف بأن الواقع العالمي يتغير، فإن المخاطر ستتوالى، وسيجد الغرب نفسه في نهاية المطاف هو المعزول.

فمن غير المنطقي أن تكون روسيا، القوة الحاسمة في السياسة الدولية منذ القرون الوسطى، على هامش العالم، ومعها الصين وكل الدول النامية تقريباً التي تتمرد بكفاءة على قوى الاستعمار الجديد منها، والقديم، كلها أيضاً تريد عالماً أكثر أمناً، واستقراراً، وعدالة، بين أممه وشعوبه، وليس خضوعاً لنظام دولي لم يتحرر أصلاً من عقدة السادة، والعبيد.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد