اختار معرض أبوظبي للكتاب في دورته الأخيرة نجيب محفوظ شخصية المعرض لهذا العام، توافقاً مع كون مصر ضيف شرف هذه الدورة، وأقيم العديد من الفعاليات والندوات المكرّسة لأدب محفوظ، ونظمّت في المعرض «حارة نجيب محفوظ»، المتخيلة من فضاءات رواياته، التي تحوّل عدد كبير منها إلى أعمال سينمائية حققت صيتاً واسعاً.
وجدنا أنه من المناسب للدخول لبعض تفاصيل حارة نجيب محفوظ بمعناها الواسع، الأدبي والإنساني، العودة إلى حوارين معه، تفصل بينهما خمس سنوات، أجرتهما معه الأديبة هالة البدري، ونشرتهما في مدخل كتابها: «غواية الحكي» الذي ضمّ مجموعة كبيرة من الحوارات مع أدباء ومبدعين.
في الحوارين، جاءت إجابات محفوظ على أسئلة البدري كما اعتدناها دائماً: موجزة، مكثفة، يقولها بأقل الكلمات، فليس من عادة محفوظ، خاصة في المرحلة الأخيرة من عمره، الميل إلى الاستطراد في الحديث أو في الردّ على الأسئلة، مكتفياً بجمل قصيرة لمّاحة، تقول ما يمكن قوله في إجابات مطوّلة، ولا تخلو بعض تعليقاته من السخرية التي تعقبها مباشرة ضحكات مدوية منه، فتبدو الضحكة متممة للإجابة، كأنه أراد بها أن يقول ما لم يرد أن يقوله بالكلمات.
في المرتين، سألته هالة البدري سؤالاً محدداً عن عالم نجيب محفوظ الحقيقي، أهو في أحاديثه ومقالاته الصحفية أم في أدبه، فأجاب في المرة الأولى بالتالي: «لا أدري.. إذا كان هناك اختلاف فأيّهما أدل على الكاتب فنه أم رأيه في حديث»، ليضيف: «أعتقد أنّ فن الكاتب أصدق لأنه يشمل العقل واللاعقل معاً، أما الحديث فيعكس تفكيره في لحظة الحديث فقط». وحين أعادت البدري السؤال عليه ثانية في المرة الثانية، اكتفى بالتأكيد على أن «الأدب أصدق في التعبير».
حين سألت البدري محفوظ عن رأيه في جيل السبعينات، الجيل التالي له، قال إنهم أكثر من أن يسعهم حديث عابر، لكنه أضاف شيئاً مهماً وجوهرياً لا يخصّ جيلاً بعينه، فحواه أنه لا توجد أزمة إطلاقاً في المواهب، ولا في النتاج الأدبي، كل جيل يقدّم مواهبه، ولكن الأزمة الثقافية في مكان آخر، فهي تكمن، برأيه، في الجمهور وفي المناخ، وعدّد بعض أسباب ذلك: عدم وجود تربية ثقافية في مراحل التعليم، غلاء سعر الكتب وجاذبية وسائل الإعلام الحديثة.
إشارة محفوظ إلى سطوة وسائل الإعلام الحديثة مبكرة، قبل أن نشهد هذا السيل الجارف من وسائل الاتصال، لذلك لم يستطع أن يعطي مثلاً سوى في التلفزيون، وبالتأكيد كانت إجابته ستكون أشمل لو قالها بعد ذلك بسنوات، ومع ذلك تبقى تلك الإجابة بمثابة النبوءة أو التحذير من تبعات وسائل التواصل الراهنة على عوالم الأدب.