هنالك أفكار مركزية ورئيسية تمارس إلحاحها وتفرض وجودها مع حدوث أي أزمة كبيرة أو صغيرة، مع أي تهديد أو انفراج، مع أي إنجاز أو إحباط، فالفكرة تؤكد على أهميتها وضرورتها وقت الشدة، كما تؤكد على نجاحها وأهمية استدامتها وقت الإنجاز والانفراج. وما يحزن القلب ويدمع الفؤاد أن هذه الأفكار باتت تتلاشى وتضمحل إلى درجة الاختفاء، ومناداة قلة قليلة بها لا تعني أنها حية.
لن أستمر في الحفر في الفكرة التي سيعتقد كثيرون أنها أحجية أو مجهولة، وسأقول إن فكرة مثل الوحدة العربية، أو التعاون العربي أو التنسيق العربي، وكل هذه العبارات تعني مفهوماً واحداً، هذه الفكرة التي يسميها البعض القومية العربية، تبدو كأنها أصبحت كقرارات جامعة الدول العربية أو قرارات وتوصيات مجلس الأمن والأمم المتحدة، حُشرت في الأدراج وتتعرض للنسيان، وكل ما أخشاه أن الأجيال المعاصرة ستتساءل عن الفكرة في زمن تحوّل فيه العالم إلى شاشة فضية، الحاسوب أو الكمبيوتر، ويعتقدون أن لا حاجة لهذه الفكرة في عصر ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال، لأن العالم، وفق رؤيتهم، قد توحد ويتفاعل بسرعة النار في الهشيم، أي يعتقدون أن التكنولوجيا قامت بتحقيق الوحدة العربية والعمل العربي وغيرهما من تسميات.
وسأطرح هنا سؤالين غريبين: الأول، هل وحّدت وسائل التواصل الاجتماعي العرب أو حققت الوحدة العربية؟ والثاني، هل مجرد الاتصال الشخصي أو التواصل الجماعي يلغي فكرة العمل الجماعي ووضع استراتيجيات تنقله من الافتراضي إلى الواقعي؟ وسؤالانا ينطلقان من خشية تخدير المصطلح ومعه الأجيال المعاصرة، وفي هذا سوء فهم للمفهوم والموضوع، نتيجة عدم قراءة التاريخ بشكل جيّد، رغم أنه تاريخ قريب.
ما يحدث للأجيال الحالية ويمكننا تحديدها بسن ثلاثة عقود أو أقل أن الفردانية باتت تسود الحياة، بحيث ينشغل الفرد بتعليمه ووظيفته وتكوين أسرة وحالته المادية، وقد ينسى المسائل الجماعية. ومرة ثانية، هل ساهمت التكنولوجيا في أسر الفرد داخل الشاشة الفضية، وأغرته بأنه يتحدث مع العالم ويتواصل معه، العالم العربي والشرقي والغربي، وبذلك لا حاجة إلى الإلحاح على الأفكار الكبيرة مثل القومية العربية أو الوحدة العربية أو أي مصطلح آخر. وهذا الإرباك الذي قد يشعره القارئ في هذه المقالة يعود إلى عدم الاطمئنان إلى ثبات النظرية أو استخلاص الفكرة واستنتاجها. فقد ساهمت التكنولوجيا بكل ما فيها من مغريات وجاذبية، شكلية وجوهرية، في التخلّي عن التفكير في العام والتمسك بالخاص.
في الواقع، واستناداً إلى الهواجس التي سبق طرحها، فإن وسائل التواصل الاجتماعي لم تساهم في بناء جسور التعاون والتعاضد الوطني والإقليمي والقومي، وسأجرؤ على القول إنها تعمل، بقصد أو غير قصد، على دفن هذه النظرية، التي يعتقدونها سياسية، وقد تشكل خطراً على الآخر. ونحن نرى أن ما يعتقده الشباب المعاصر من تقارب وتعاون وتوحّد أنجزته التكنولوجيا، هو في حقيقة الأمر تنافر وتباعد، بصفته يحدث في غرف مغلقة، وثانياً، لا يناقش سكان الغرف المغلفة هذه الشؤون، خشية الظن بأنها ممنوعة، لهذا، وحين تتبنى جهة رسمية تأسيس منصة للشباب العرب، وتتيح لهم الغرف المفتوحة للنقاش مترامي الأطراف، يقبل الشباب عليها إقبالاً منقطع النظير.
فهل يحتاج الشباب إلى مشجع ومحفّز ليجمعوا كلمتهم ويطرحوا أفكارهم الإبداعية في السياسة والاقتصاد والمجتمع؟ أعتقد أنهم في حاجة لهذه المنصة الشرعية الواضحة، والمعنى مما ذكرت أن الشباب العرب تواقون للتعاون، ويطمحون إليه وجدانياً وعقلياً، ويحتاجون إلى عجلة تدفع قدراتهم إلى مدى الابتكار والإبداع.
سيقول البعض إنني أتحدث بشكل مباشر وإنشائي ورسمي وحكومي، وأقول، ليس تماماً، إنما الفرد يشجع المجموعة، والعكس صحيح، والمجموعة قد تكون الجهة الرسمية، التي بات الوصول إليها سهلاً نتيجة التقدّم التكنولوجي وأساليب التواصل المتطورة.
إن استخدام تكنولوجيا الاتصال بين شريحة من البشر، تناقش فيها قضايا مركزية مثل التعاون العربي، لا يكفي مطلقاً، لأن الحديث سيبقى افتراضياً، ويشجع على الفكرة من دون اتخاذ خطوات عملية لتحقيقها، ويبقى العمل الفعلي المباشر من خلال القنوات التقليدية كالندوات والمؤتمرات أكثر من ضروري، لا سيّما أن لا أحد يرفض الفكرة رفضاً كاملاً، والاختلاف فقط يكون في بعض التفاصيل، لا سيّما تلك المتعلقة بالسيادة.
وفي الواقع لا أحد ينوي الاعتداء أو الانتقاص من سيادة أحد على أرضه، وليس المطلوب أن يحدث هذا، إنما الحث على التعاون والتنسيق. وإذا عدنا إلى تكنولوجيا الاتصال، والحديث الافتراضي، سنجد أن لا أحد يحدّث نفسه في غرفة مغلقة، أو شاشة فضية صغيرة، بل يحتاج إلى الآخر، والتعاون معه لتحقيق أي هدف كان، فكيف إذا كان الأمر وطنياً أو قومياً.
لا أدري إذا كانت الفكرة تسبق التكنولوجيا أم أن التكنولوجيا هي التي تخلق أهمية الفكرة، لكن ما أعلمه أن كل هذه التكنولوجيا الخاصة بالاتصال والتواصل، ستبقى غير كافية، من دون التعاون بين الشباب لخلق تكنولوجيا خاصة بهم، تحقق لهم الاستقلال الذاتي، وهذا يتطلب تعاوناً إقليمياً وقومياً نوعياً.