تحل في الثالث من مارس/آذار من هذا العام الذكرى المئوية لتصويت الجمعية الوطنية التركية، على قرار «خلع الخليفة وإلغاء مقام الخلافة بعد دمج معناها ومفهومها من حيث الأساس في الحكومة والجمهورية». أتى القرار، بإيعاز من الغازي مصطفى كمال، وكمؤشر على إطباقه الكامل على مؤسسات الجمهورية الوليدة، يدفع بها في الاتجاه الذي يريد.
ما اكتفى نص القرار بخلع الخليفة، بل طلب منه، ومن جميع أفراد العائلة العثمانية مغادرة الأراضي التركية على عجل، وللأبد، واقتضى سحب الجنسية منهم وإبطال كل ما يُبنى عليها من حقوق.
المفارقة الأولى أن الخليفة الذي توجب عليه تنفيذ القرار، عبد المجيد الثاني، كان أول خليفة عثماني غير إمبراطور، غير سلطان، فهو تبوأ المنصب بعد خلع آخر سلاطين بني عثمان، ابن عمه، وحيد الدين محمد السادس.
هو أيضا بهذا المعنى أول خليفة وآخر خليفة يأتي به، شكليا على الأقل، برلمان ويذهب به برلمان. خليفة بشرعية دستورية ـ شعبية إذن، إنما في المقابل كان منصبه شرفيا محض.
كانت الخلافة لقبا تقلده عبد المجيد الثاني، أكثر منه منصبا تولاه. ويظهر أن إلغاء اللقب كان مسألة وقت منذ البداية. مع هذا، أتى إلغاء الخلافة غير السلطانية، بالشكل القطعي، ليحدث مفعول صدمة ارتجت لها ديار العالم الإسلامي قاطبة في ذلك الوقت، وتوالت ارتداداتها من يومها دعوات ومشاريع لـ«إحياء الخلافة» معنى ومبنى.
وأغلب دعوات الإحياء هذه نظرت إلى إلغاء تركيا الجمهورية لهذا المقام في 3 مارس 1924 على أنه نائبة أُنْزِلَت بالمسلمين وفتنة تستهدف إضعافهم والتفريق بينهم، لكنها مناسبة ثمينة في الوقت نفسه تسمح لهم بالرجعة بالخلافة، ولو بعد حين، إلى حيث معناها الأول، ونماذجها الأهل بأن تُحتذى وتُستعاد. بمعنى أن إلغاء الخلافة العثمانية، ولو كان تدبيرا مدانا ومشؤوما، إلا أنه يعد، من بعد إعداد وتجهيز، بالاستعاضة عن الخلافة الملحقة بالملك العضوض، الخلافة الكسروية، بخلافة تنهل من معين السلف الصالح، وتقيم السنة وتحارب البدعة، وترتكز إلى الشورى، وتستبعد الاستبداد بالرأي.
ومن هذا الباب، بدا حال الخلافة العثمانية محيرا. فهي لم تكن لتماثل النموذج العربي من الملك العضوض، الأموي فالعباسي حتى، ذلك أنها غير متحدرة من قريش، وما من سلطان فيها سعى إلى الحج. هذا إن كان من الممكن أساسا إرجاع تقلد السلاطين العثمانيين للقب الخلافة إلى أيام فتح سليم الأول خان لمصر، وأخذه اللقب عن آخر الخلفاء العباسيين الملحقين بسلاطينها من المماليك. وهذه رواية يصعب إسنادها تاريخيا، والراجح أن السلاطين العثمانيين أغنتهم كثرة الألقاب التعظيمية والتفخيمية عن الخلافة إلى أن أعادوا اكتشاف منافعها في وقت متأخر، عندما ضاقت بهم السبل وأخذوا يُهزمون في أرض المعارك، وبالتحديد أكثر، منذ اضطرهم صلح كوتشوك قينارجه مع الجانب الروسي، عند هزيمتهم أمام الإمبراطورة يكاترينا الثانية عام 1774، إلى استدعاء صفة السلطان كخليفة روحي على المسلمين في الأراضي التي تمددت إليها الإمبراطورية الروسية، في مقابل تمتع الإمبراطورة يكاترينا، وفقا لنص المعاهدة نفسها، بصفة الحامية لملة الروم ضمن أراضي السلطنة العثمانية.
أتى إلغاء الخلافة غير السلطانية، بالشكل القطعي، ليحدث مفعول صدمة ارتجت لها ديار العالم الإسلامي قاطبة في ذلك الوقت
وحتى بعد هذا التاريخ، فإن الخلافة لم تتحول إلى مركز الثقل في سياسة السلطنة العثمانية إلا مع سلاطين عصر التنظيمات، عبد المجيد وعبد العزيز بداية، ثم وبشكل أكثر منهجية وتصميما، مع عبد الحميد الثاني، الذي فهم بشكل ثاقب أن مساحة السلطنة العثمانية إن أخذت تنحسر، فمساحة الخلافة العثمانية مرشحة لأن تتسع أكثر فأكثر، في مرحلة بات فيها معظم مسلمو العالم، من الهند الهولندية (اندونيسيا) إلى البريطانية (جنوب آسيا) إلى مصر وأفريقيا شمالي وجنوب الصحراء موزعين ضمن الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية «ما وراء البحار» ناهيك عن مسلمي جنوب آسيا والقوقاز الواقعين في خانة «الاستعمار القاري» الروسي.
المفارقة الثانية، أن إلغاء الخلافة، وترحيل آخر متقلدي اللقب من العثمانيين أحدث كل هذا المفعول «الأبوكاليبسي» في طول العالم الإسلامي وعرضه، في حين أن الخليفة المخلوع نفسه، عبد المجيد الثاني، لم يكن بالشخصية التي عرف عنها الباع لا في أمور الدين ولا في أمور السياسة. فالرجل، وهو ابن السلطان عبد العزيز، كان في المقام الأول رساما تشكيليا، وفي المقام الثاني هاويا لجمع الفراشات. مقارنة بمصطفى كمال أتاتورك، يبدو عبد المجيد أكثر تشربا للثقافة الأوروبية، وللروح الكوزموبوليتية. طرده بهذا الشكل من الأستانة كان انتصارا للقساوة العسكرية على الحس المرهف، وليس على التشدد الديني. في الوقت نفسه، أدى هذا الطرد بشكل أو بآخر إلى انطلاقة الإسلام السياسي، بعيدا عن الظاهرة التي شكلها آخر الخلفاء بشخصه وهندامه، والصور المحفوظة من ذاكرة نفيه إلى سويسرا ثم إلى نيس في الجنوب الفرنسي، ناهيك عن الصور الملتقطة له مع صهره، «نظام» (لقب ملكي) أعظم جاه، حاكم حيدر آباد جنوب الهند. فكل هذا الأرشيف يظهر لنا خليفة أنيقا، معتدلا، محبا للفن والإبداع والثقافة، متقبلا لتأورب الزي عند الرجال والنساء معا، خليفة لا يشبه ثنائية العسكر والإسلاميين التي دارت رحاها من بعد خلعه، وعلى خلفية خلعه. خليفة لم ينل من الملك العضوض إلا ما ندر، ولم يطرح نفسه من الأساس على أنه الخليفة بالشكل الذي اقتضاه الإمام الماوردي في «الأحكام السلطانية». توليته للمنصب تمت من الأساس دون كثير اهتمام به، في حين كان لخلعه الوقع الأكبر.
في المقابل، عندما أطيح بسلفه وابن عمه، السلطان محمد السادس، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1922، وألغيت السلطنة، لم يحدث ذلك تذمرا كبيرا بين المسلمين على امتداد ديارهم. فمصطفى كمال كان وقتها يحقق الانتصارات في وجه اليونانيين والحلفاء الأوروبيين، في حين كان محمد السادس خليفة في ظل احتلال الحلفاء لإسطنبول، يرضى بمعاهدة سيفر، ويكفر المقاومة الأناضولية باعتبارها شراذم من قطاع الطرق والعصاة. ولم يشفع لمحمد السادس عند المسلمين أن جزءا أساسيا من موقفه ضد كمال والحراك الاستقلالي القومي الناشب في الأناضول يعود إلى حقده على جماعة «الاتحاد والترقي» فالرجل كان مقربا من أخيه السلطان عبد الحميد الثاني، ويرى أن الاتحاديين، وبالتعاون مع الألمان، ضيعوا كل ما بناه عبد الحميد، وأن الوقوف إلى جانب الإنكليز بعد هزيمة السلطنة هو السبيل الوحيد لتمكنها من الوقوف على قدميها ولو بعد حين. والناس تحسرت على أيام عبد الحميد، لكنها لم تتقبل أسلوب محمد السادس في النظر، فبقي بالنسبة إليها سلطانا متعاونا مع المحتل، يقف في وجه حركة تحررية فرضت بالسلاح إلغاء معاهدة سيفر التفكيكية لأوصال الأناضول والتدويلية للمضائق وأبدلتها بمعاهدة لوزان 1923 التي شقت السبيل لقيام الدولة ـ الأمة التركية على كامل الأناضول وتراقيا الشرقية.
عندما أطيح بآخر السلاطين، محمد السادس، سخر منه أمير الشعراء أحمد شوقي، وقارن يومها بين إقلاله من الأستانة، على متن مدرعة بريطانية، وما أشيع يومها من محاولة لتهريب جثمان الفرعون توت عنخ آمون، المكتشف في العام نفسه، من مصر إلى لندن. سأل شوقي: «أمن سرق الخليفة وهو حي يعف عن الملوك مكفنينا». لم تمض ستة عشر شهرا إلا وأطيح من بعد آخر السلاطين، بالخليفة الوحيد غير السلطان. عندها طفق شوقي يرثي حال الخلافة والأمة معا، بعد أن كان يغالي في مدح مصطفى كمال، ويقارنه بخالد ابن الوليد، أخذ يماثل بينه وبين مسيلمة: «فلتسمعن بكل أرض داعيا يدعو إلى الكذاب أو لسجاح». هذا في بكائيته التي اشتهر فيها أكثر بـ: «ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح، الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح، والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟!».
مدهش كيف أمكن في أشهر قليلة إطلاق العنان لكل هذه المشاعر المتضاربة. تمجيد كمال ثم السخط الشديد عليه، الشماتة بمحمد السادس ثم التفجع من بعد خلع عبد عبد المجيد الثاني، مع أن كل لحظة من هذه كانت تقود بصلة سببية لا راد لها إلى اللحظة التالية: انتصار كمال في حرب الاستقلال قاد نحو الجمهورية، وإلغاء السلطنة إلى إلغاء الخلافة. يبقى أن اسمي آخر سلطان، وآخر خليفة غير سلطان، لا يساعدنا على فهم ما استقر في المخيال الإسلامي وما اندثر. قل من يحفظ اسميهما اليوم. في المقابل، الخليفة الوحيد المستقر في الذاكرة والذي كلما كان الحديث عن «إلغاء الخلافة» جرى استذكاره، هو عبد الحميد الثاني، المطاح به قبل إلغاء الخلافة بخمسة عشر عاما، وربما كان المستقر عند الناس أن الخلافة ألغيت لا يوم طرد عبد المجيد الثاني، أو قبله وحيد الدين، بل يوم خلع الاتحاديون عبد الحميد، وساروا بالإمبراطورية نحو مآلها الأخير.