لم تكن الأحداث والتطورات الداخلية الأمريكية محدداً محورياً للسياسة الخارجية الأمريكية، كما هي الآن، خاصة السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط. فالظروف الانتخابية شديدة التعقيد التي تواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن، سواء من ناحية تدني مؤشرات الدعم التي يحصل عليها من الرأي العام الأمريكي، لأسباب كثيرة منها الانقسام الداخلي حول سياساته الداخلية، واحتلال «عامل السن» للمرشحين للرئاسة مكانة بارزة في الحملة الانتخابية، خاصة بعد أن أفاد تقرير نشر مؤخراً، بأن بايدن، يعاني مشكلات تتعلق بالذاكرة، أو من ناحية تزايد حدة تراجع دعم تياري اليسار والشباب داخل الحزب الديمقراطي، وبالذات في ظل تنامي رفض الانحياز الأمريكي «الأعمى» لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، أو من ناحية الصعود القوي للرئيس السابق دونالد ترامب، كمنافس أساسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتبنّي ترامب مواقف رافضة للدعم الأمريكي لأوكرانيا، وعدائية ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تعقيدات وصعوبة هذه الظروف أخذت تدفع الرئيس بايدن لمحاولة تحقيق نجاحات ما، في سياساته، الخارجية أملاً في أن تحسن هذه النجاحات من أوضاعه الانتخابية الحرجة.
التحدي الأكبر الذي واجه بايدن، وحاول أن يجعل منه فرصة لتحسين أوضاعه الانتخابية كان السعي إلى التوصل إلى أفضل الخيارات لمواجهة الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في العراق وسوريا، كان أبرزها بالطبع الهجوم الذي شنته «المقاومة الإسلامية العراقية»، على قاعدة عسكرية أمريكية تحمل اسم «البرج -22»، وتقع على الحدود الأردنية – السورية يوم 28 يناير/ كانون الثاني الفائت، وأدى إلى مقتل 3 عسكريين أمريكيين، وجرح أكثر من 40 آخرين.
هذا الهجوم فاقم من التعقيدات التي تواجه إدارة بايدن، خصوصاً في ظل ما أثاره من ردود فعل صاخبة، سياسية وإعلامية، داخل الولايات المتحدة، حيث زادت حدة الاستقطاب الداخلي خاصة بين الجمهوريين والديمقراطيين، حول ما يجب اتخاذه من سياسات أمريكية دفاعاً عن المصالح والمكانة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتعددت السيناريوهات ألتي جرى طرحها للرد على هذا الهجوم أمام الإدارة الأمريكية، تمحورت حول تيارين أساسيين ضاغطين على الرئيس الأمريكي الذي كان عليه أن يصل إلى أفضل الخيارات بهذا الخصوص.
التيار الأول تبنّى سيناريوهات التشدد، ليس ضد من يسمونهم ب«وكلاء إيران» من فصائل المقاومة العراقية فقط، بل أعطى هذا التيار الأولوية لضرب إيران نفسها، وهنا نتلمس عمق التأثير الإسرائيلي في خيارات هذا التيار، حيث يعمل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على توريط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران ما زالت تمثل أفضل خياراته للتخلص من «العدو الإيراني».
فقد سارع الجمهوريون، بالذات، إلى الإعراب عن سخطهم الشديد لسقوط ضحايا أمريكيين وانتقادهم الشديد لما أسموه ب«سياسة بايدن اللينة» تجاه إيران، واتهمه بعضهم بالتسبب بزيادة الهجمات ضد القوات الأمريكية بسبب عدم اتخاذه قراراً صارماً للرد بحزم، وبشكل مباشر على إيران، وهي خطوة يتردد بايدن في اتخاذها، خشية إشعال فتيل حرب أوسع نطاقاً. فقد اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب مايك ماكول، أن «سياسة إدارة بايدن الفاشلة في الشرق الأوسط دمرت سياسة الردع الأمريكية ضد خصومنا في الشرق الأوسط». أما السيناتور ليندسي غراهام، فكان أكثر حدة حيث دعا إلى «استهداف إيران بشكل مباشر»، ووجّه الحديث إلى الرئيس الأمريكي قائلاً: «أنا أدعو إدارة بايدن إلى ضرب أهداف مهمة داخل إيران، ليس للرد على قتل قواتنا فقط، بل للردع ضد أي اعتداءات مستقبلية». كما دعا النائب الجمهوري «مايك روجرز» الذي يترأس لجنة الرقابة العسكرية الأمريكية في مجلس النواب، إلى «اتخاذ إجراء صارم ضد إيران»، وقال «لا بد من محاسبة النظام الإيراني الإرهابي، وحلفائه المتطرفين».
التيار الثاني، عبّر عن مواقف الديمقراطيين، وكان أكثر تحفظاً في تبنّي سياسات متشددة، واكتفى زعيمهم في مجلس النواب «حكيم جيفريز» بالقول: «يجب أن يحمل المسؤولية كل عنصر مسؤول عن الاعتداءات»، وعبرت بعض المواقف الديمقراطية عن قلقها من فشل استراتيجية بايدن لاحتواء الصراع في قطاع غزة، على نحو ما تحدثت صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي أعطت الأولوية لإنهاء الحرب في غزة، فقد أرجعت الصحيفة اشتعال فتيل الصراع بين الولايات المتحدة والفصائل العراقية الموالية لإيران إلى «الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة».
واختار الرئيس بايدن خياراً وسطاً، فقد حرص على تجنب الصدام مع إيران، ضمن حرصه على الحيلولة دون تفجير حرب إقليمية في المنطقة، لكنه وجه ضربات موجعة لمواقع فصائل موالية لإيران في العراق وسوريا، وأكد جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي على أن الولايات المتحدة «تعتزم شن ضربات إضافية ضد الجماعات المدعومة من إيران».
كيف سيؤثر هذا الخيار الأمريكي في جهود بغداد لانسحاب القوات الأمريكية التي بدأت مفاوضاتها قبيل أيام من تفجّر تلك الهجمات المتبادلة بين العراقيين والأمريكيين؟ السؤال مهم لأنه يخص إدارة بايدن، بقدر ما يخص حكومة العراق.